فصل: تفسير الآية رقم (4)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


سورة غافر

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏حم ‏(‏1‏)‏‏}‏

القول فيه كالقول في نظائره من الحروف المقطّعة في أوائل السور، وأن معظمها وقع بعده ذكر القرآن وما يشير إليه لِتحدّي المنكرين بالعجز عن معارضته‏.‏ وقد مضى ذلك في أول سورة البقرة وذكرنا هنالك أن الحروف التي أسماؤها ممدودة الآخِر يُنطق بها في هذه الفواتح مقصورة بحذف الهمزة تخفيفاً لأنها في حالة الوقف مثل اسم ‏(‏حا‏)‏ في هذه السورة واسم ‏(‏را‏)‏ في ‏(‏أَلر‏)‏ واسم ‏(‏يا‏)‏ في ‏(‏يس‏)‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ‏(‏2‏)‏‏}‏

القول فيه كالقول في فاتحة سورة الزمر‏.‏ ويُزاد هنا أن المقصود بتوجيه هذا الخبر هم المشركون المنكرون أن القرآن منزل من عند الله‏.‏ فتجريد الخبر عن المؤكد إخراج له على خلاف مقتضى الظاهر بجعل المنكِر كغير المنكر لأنه يحف به من الأدلة ما إِنْ تَأَمَّلَه ارتدع عن إنكاره فما كان من حقه أن ينكر ذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ ‏(‏3‏)‏‏}‏

أجريت على اسم الله ستة نعوت معارفُ، بعضُها بحرف التعريف وبعضها بالإضافة إلى معرّف بالحرف‏.‏

ووصْفُ الله بوصفي ‏{‏العَزِيز العَليم‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 2‏]‏ هنا تعريض بأن منكري تنزيل الكتاب منه مغلوبون مقهورون، وبأن الله يعلم ما تكنّه نفوسهم فهو محاسبهم على ذلك، ورَمْزٌ إلى أن القرآن كلام العزيز العليم فلا يقدر غير الله على مثله ولا يعلم غير الله أن يأتي بمثله‏.‏

وهذا وجه المخالفة بين هذه الآية ونظيرتها من أول سورة الزمر التي جاء فيها وصف ‏{‏العَزِيز الحكيم‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 1‏]‏ على أنه يتأتى في الوصف بالعلم ما تأتَّى في بعض احتمالات وصف ‏{‏الحكيم في سورة الزمر‏.‏ ويتأتى في الوصفين أيضاً ما تَأَتَّى هنالك من طريقي إعجاز القرآن‏.‏ وفي ذكرهما رمز إلى أن الله أعلم حيث يجعل رسالَته وأنه لا يجاري أهواء الناس فيمن يرشحونه لذلك من كبرائهم ‏{‏وقالوا لولا نُزِّل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 31‏]‏‏.‏

وفي إِتْباع الوصفين العظيمين بأوصاف ‏{‏غافر الذنب وقَابِل التَّوْب شَديد العِقاب ذِي الطَّول‏}‏ ترشيح لذلك التعريضضِ كأنه يقول‏:‏ إن كنتم أذنبتم بالكفر بالقرآن فإن تدارك ذنبكم في مكنتكم لأن الله مقرَّر اتصافه بقبول التوبة وبغفران الذنب فكما غفر لمن تابوا من الأمم فقبل إيمانهم يغفر لمن يتوب منكم‏.‏

وتقديم ‏{‏غافر‏}‏ على ‏{‏قابل التوب‏}‏ مع أنه مرتب عليه في الحصول للاهتمام بتعجيل الإِعلام به لمن استعدّ لتدارك أمره فوصفُ ‏{‏غافر الذنب وقابل التوب‏}‏ تعريض بالترغيب، وصِفتا ‏{‏شَدِيد العقاب ذِي الطَّول‏}‏ تعريض بالترهيب‏.‏ والتوبُ‏:‏ مصدر تاب، والتوب بالمثناة والثوب بالمثلثة والأَوْب كلها بمعنى الرجوع، أي الرجوع إلى أمر الله وامتثاله بعد الابتعاد عنه‏.‏ وإنما عطفت صفة ‏{‏وقَابِل التَّوْب‏}‏ بالواو على صفة ‏{‏غَافِر الذنب‏}‏ ولم تُفْصَل كما فُصِلت صفتا ‏{‏العليمِ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 2‏]‏ ‏{‏غافرِ الذنب‏}‏ وصفة ‏{‏شديد العقاب‏}‏ إشارة إلى نكتة جليلة وهي إفادة أن يجمَع للمذنب التائب بين رحمتين بين أن يقبل توبته فيجعلها له طاعة، وبين أن يمحو عنه بها الذنوب التي تاب منها وندِم على فعلها، فيصبحَ كأنه لم يفعلها‏.‏ وهذا فضل من الله‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏شديد العقاب‏}‏ إفضاء بصريح الوعيد على التكذيب بالقرآن لأن مجيئه بعد قوله‏:‏ ‏{‏تنزيلُ الكِتَاب مِن الله‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 2‏]‏ يفيد أنه المقصود من هذا الكلام بواسطة دلالة مستتبعات التراكيب‏.‏

والمراد بغافر‏}‏ و‏{‏قابل‏}‏ أنه موصوف بمدلوليهما فيما مضى إذ ليس المراد أنه سيغفر وسيقبل، فاسم الفاعل فيهما مقطوع عن مشابهة الفعل، وهو غير عامل عمَل الفعل، فلذلك يكتسِبُ التعريف بالإِضافة التي تزيد تقريبه من الأسماء، وهو المحمل الذي لا يناسب غيرُهُ هنا‏.‏

و ‏{‏التوب‏}‏ صفة مشبَّهة مضافة لفاعلها، وقد وقعت نعتاً لاسم الجلالة اعتداداً بأن التعريف الداخل عَلى فاعل الصفة يقوم مقام تعريف الصفة فلم يخالَف ما هو المعروف في الكلام من اتحاد النعت والمنعوت في التعريف واكتساب الصفة المشبهة التعريفَ بالإِضافة هو قول نحاة الكوفة طرداً لباب التعريف بالإضافة، وسيبَويه يجوز اكتساب الصفات المضافةِ التعريفَ بالإِضافة إلاّ الصفة المشبهة لأن إضافتها إنما هي لفاعلها في المعنى لأن أصل ما تضاف إليه الصفة المشبهة أنه كان فاعلاً فكانت إضافتها إليه مجرد تخفيف لفظي والخطب سهل‏.‏

والطوْل يطلق على سعة الفضل وسعة المال، ويطلق على مطلق القدرة كما في «القاموس»، وظاهرُه الإِطلاقُ وأقره في «تاج العروس» وجعله من معنى هذه الآية، ووقوعُه مع ‏{‏شديد العقاب‏}‏ ومزاوجتها بوصفي ‏{‏غافر الذنب وقابل التوب‏}‏ ليشير إلى التخويف بعذاب الآخرة من وصف ‏{‏شديد العِقَاب‏}‏، وبعذاب الدنيا من وصف ‏{‏ذِي الطَّوْل‏}‏ كقوله‏:‏ ‏{‏أو نرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 42‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏قل إن اللَّه قادر على أن ينزل آية‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 37‏]‏‏.‏ وأعقب ذلك بما يدل على الوحدانية وبأن المصير، أي المرجع إليه تسجيلاً لبطلان الشرك وإفساداً لإِحالتهم البعث‏.‏

فجملة ‏{‏لا إله إلاَّ هو‏}‏ في موضع الصفة، وأتبع ذلك بجملة ‏{‏إليه المَصِير‏}‏ إنذاراً بالبعث والجزاء لأنه لما أجريت صفات ‏{‏غَافِر الذَّنب وقَابِل التَّوببِ شَدِيد العِقَاب‏}‏ أثير في الكلام الإِطماعُ والتخويفُ فكان حقيقاً بأن يشعروا بأن المصير إما إلى ثوابه وإما إلى عقابه فليزنوا أنفسهم ليضعوها حيث يلوح من حالهم‏.‏

وتقديم المجرور في ‏{‏إليه المَصِيرُ‏}‏ للاهتمام وللرعاية على الفاصلة بحرفين‏:‏ حرف لين، وحرف صحيح مثل‏:‏ العليم، والبلاد، وعقاب‏.‏

وقد اشتملت فاتحة هذه السورة على ما يشير إلى جوامع أغراضها ويناسب الخوض في تكذيب المشركين بالقرآن ويشير إلى أنهم قد اعتزوا بقوتهم ومكانتهم وأن ذلك زائل عنهم كما زال عن أمم أشد منهم، فاستوفت هذه الفاتحة كمال ما يطلب في فواتح الأغراض مما يسمى براعة المطلع أو براعة الاستهلال‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏مَا يُجَادِلُ فِي آَيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ ‏(‏4‏)‏‏}‏

استئناف بياني نشأ من قوله‏:‏ ‏{‏تَنْزِيلُ الكِتَاببِ مِن الله العَزيز العَليم‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 2‏]‏ المقتضي أن كون القرآن منزلاً من عند الله أمرٌ لا ريب فيه كما تقدم، فينشأ في نفوس السامعين أن يقولوا‏:‏ فما بال هؤلاء المجادلين في صدق نسبة القرآن إلى الله لم تقنعهم دلائل نزول القرآن من الله، فأجيب بأنه ما يجادل في صدق القرآن إلا الذين كفروا بالله وإذ قد كان كفر المكذبين بالقرآن أمراً معلوماً كان الإِخبار عنهم بأنهم كافرون غير مقصود منه إفادة اتصافهم بالكفر، فتعين أن يكون الخبر غير مستعمل في فائدة الخبر لا بمنطوقه ولا بمفهومه، فإن مفهوم الحصر وهو‏:‏ أن الذين آمنوا لا يجادلون في آيات الله كذلك أمر معلوم مقرر، فيجوز أن يجعل المراد بالذين كفروا نفس المجادلين في آيات الله وأن المراد بكفرهم كفرهم بوحدانية الله بسبب إشراكهم، فالمعنى‏:‏ لا عجب في جدالهم بآيات الله فإنهم أتوا بما هو أعظم وهو الإِشراك على طريقة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتاباً من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا اللَّه جهرة‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 153‏]‏‏.‏

ويجوز أن يجعل المراد بالذين كفروا جميع الكافرين بالله من السابقين والحاضرين، أي ما الجَدل في آيات الله إلا من شأن أهل الكفر والإِشراك، ومجادلة مشركي مكة شعبة من شعب مجادلة كل الكافرين، فيكون استدلالاً بالأعمّ على الخاص، وعلى كلا الوجهين تُرك عطف هذه الجملة على التي قبلها‏.‏

والمراد بالمجادلة هنا المجادلة بالباطل بقرينة السياق فمعنى ‏{‏في آيات الله‏}‏ في صدق آيات الله بقرينة قوله‏:‏ ‏{‏تَنزِيل الكِتَاب مِن الله العَزيز العليم‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 2‏]‏ فتعين تقدير مضاف دل عليه المقام كما دَل قوله تعالى عن إبراهيم عليه السلام‏:‏ ‏{‏يجادلنا في قوم لوط‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 74‏]‏، على تقدير‏:‏ في إهلاك قوم لوط، فصيغة المفاعلة للمبالغة في الفعل من جانب واحد لإِفادة التكرر مثل‏:‏ سافر وعافاه الله، وهم يتلونون في الاختلاق ويعاودون التكذيب والقولَ الزور من نحو قولهم‏:‏ ‏{‏أساطير الأولين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 25‏]‏، ‏{‏سحر مبين‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 110‏]‏، ‏{‏قول كاهن‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 42‏]‏، ‏{‏قول شاعر‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 41‏]‏ لا ينفكون عن ذلك‏.‏ ومن المجادلة توركهم على الرسول صلى الله عليه وسلم بسؤاله أن يأتيهم بآيات كما يقترحون، نحو قولهم‏:‏ ‏{‏لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 90‏]‏ الآيات وقولهم‏:‏ ‏{‏لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 7‏]‏ الآيات‏.‏

وقد كان لتعلق ‏{‏في‏}‏ الظرفية بالجدال، ولدخوله على نفس الآيات دون أحوالها في قوله‏:‏ ‏{‏مَا يُجَادِلُ في آيات الله‏}‏ موقعٌ عظيم من البلاغة لأن الظرفية تحْوِي جميعَ أصناف الجدال، وجُعل مجرورُ الحرف نفسَ الآيات دون تعيين نحو صدقِها أو وقوعها أو صنفها، فكان قوله‏:‏ ‏{‏في آيات الله‏}‏ جامعاً للجدل بأنواعه ولمتعلِّق الجدل باختلاف أحواله والمراد الجدال بالباطل كما دل عليه تنظير حالهم بحال من قال فيهم

‏{‏وجادلوا بالباطل‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 5‏]‏ فإذا أريد الجدال بالحق يقيد فعل الجدال بما يدل عليه‏.‏

والمعنى‏:‏ ما يجادل في آيات الله أنها من عند الله، فإن القرآن تحدّاهم أن يأتوا بمثله فعجزوا، وإنما هو تلفيق وتستر عن عجزهم عن ذلك واعتصام بالمكابرة فمجادلتهم بعدما تقدم من التحدّي دالة على تمكن الكفر منهم وأنهم معاندون وبذلك حصل المقصود من فائدة هذا وإلاّ فكونهم كفاراً معلوم‏.‏

وإظهار اسم الجلالة في قوله‏:‏ ‏{‏ما يجادل في آيات الله‏}‏ دون أن يقول‏:‏ في آياته، لتفظيع أمرها بالصريح لأن ذكر اسم الجلالة مؤذن بتفظيع جدالهم وكفرهم وللتصريح بزيادة التنويه بالقرآن‏.‏

وفُرع قوله‏:‏ ‏{‏فَلا يَغرُرك تَقَلُّبهم في البِلادِ‏}‏ على مضمون ‏{‏ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا‏}‏ لما علمت من أن مقتضى تلك الجملة أن المجادلين في آيات الله هم أهل الكفر، وذلك من شأنه أن يثير في نفس من يراهم في متعة ونعمة أن يتساءل في نفسه كيف يتركهم الله على ذلك ويظنَّ أنهم أمنوا من عذاب الله، ففرع عليه الجواب ‏{‏فلا يغررك تقلبهم في البلاد‏}‏ أي إنما هو استدراج ومقدار من حلم الله ورحمته بهم وقتاً مَّا، أو أن معناه نحن نُعلمُ أنهم يجادلون في آياتنا إصراراً على الكفر فلا يوهمْك تقلبهم في البلاد أنا لا نؤاخذهم بذلك‏.‏

والغرور‏:‏ ظن أحد شيئاً حسناً وهو بضده يقال‏:‏ غَرّك، إذا جعلك تظن السيّئ حسناً‏.‏ ويكون التغرير بالقول أو بتحسين صورة القبيح‏.‏

والتقلب‏:‏ اختلاف الأحوال، وهو كناية عن تناول محبوب ومرغوب‏.‏ و‏{‏البلاد‏}‏ الأرض، وأريد بها هنا الدنيا كناية عن الحياة‏.‏

والمخاطب بالنهي في قوله‏:‏ ‏{‏فلا يغررك‏}‏ يجوز أن يكون غيرَ معين فيعم كل مَن شأنه أن يغره تقلب الذين كفروا في البلاد، وعلى هذا يكون النهي جارياً على حقيقةِ بابه، أي موجهاً إلى من يتوقع منه الغرور، ومثله كثير في كلامهم، قال كعب بن زهير‏:‏

فلا يَغُرَّنْكَ مَا مَنَّتْ وما وعدت *** إِنَّ الأَمَانِيَّ والأَحلامَ تضليل

ويجوز أن يكون الخطاب موجهاً للنبيء صلى الله عليه وسلم على أن تكون صيغة النهي تمثيلية بتمثيل حال النبي صلى الله عليه وسلم في استبطائه عقاب الكافرين بحال من غرّهُ تقلبهم في البلاد سالمين، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 3‏]‏‏.‏

والمعنى‏:‏ لا يوهمنك تناولهم مختلف النعماء واللذات في حياتهم أننا غير مؤاخذينهم على جدالِهم في آياتنا، أو لا يوهمنك ذلك أننا لا نعلم ما هم عليه فلم نؤاخذهم به تنزيلاً للعالم منزلة الجاهل في شدة حزن الرسول صلى الله عليه وسلم على دوام كفرهم ومعاودةِ أذاهم كقوله‏:‏ ‏{‏ولا تحسبن اللَّه غافلاً عما يعمل الظالمون‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 42‏]‏، وفي معنى هذه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد‏}‏ وتقدمت في ‏[‏آل عمران‏:‏ 196، 197‏]‏‏.‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ ‏(‏5‏)‏‏}‏

جملة ‏{‏كَذَّبَتْ قَبْلَهم قَوْم نُوحٍ‏}‏ وما بعدها بيان لجملة ‏{‏فلا يغرُرك تقلُّبهم في البلد‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 4‏]‏ باعتبار التفريع الواقع عقب هاته الجمل من قوله‏:‏ ‏{‏فأخذتهم فكيف كانَ عِقَاب‏}‏، فالمعنى‏:‏ سبقتهم أمم بتكذيب الرسل كما كذبوك وجادلوا بالباطل رسلهم كما جادلك هؤلاء فأخذتهم فكيف رأيت عقابي إياهم كذلك مثل هؤلاء في إمهالهم إلى أن آخذهم‏.‏

والأحزاب‏:‏ جمع حِزب بكسر الحاء وسكون الزاي وهو اسم للجماعة الذين هم سواء في شأن‏:‏ من اعتقادٍ أو عمل أو عادةٍ‏.‏ والمراد بهم هنا الأمم الذين كانت كل أمة منهم متفقة في الدين، فكل أمة منهم حزب فيما اتفقت عليه‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏مِن بَعْدِهم‏}‏ إشارة إلى أن قوم نوح كانوا حزباً أيضاً فكانوا يدينون بعبادة الأصنام‏:‏ يغوث، ويعوق، ونسر، وودَ، وسُواع، وكذلك كانت كل أمة من الأمم التي كذبت الرسل حزباً متفقين في الدين، فعادٌ حزب، وثمود حزب، وأصحاب الأيكة حزب، وقوم فرعون حزب‏.‏ والمعنى‏:‏ أنهم جميعاً اشتركوا في تكذيب الرسل وإن تخالف بعض الأمم مع بعضها في الأديان‏.‏ وفي الجمع بين ‏{‏قبلهم‏}‏ و‏{‏مِن بَعْدِهِم‏}‏ محسِّن الطباق في الكلام‏.‏

والهمّ‏:‏ العزم‏.‏ وحقه أن يعدّى بالباء إلى المعاني لأن العزم فعل نفساني لا يتعلق إلا بالمعاني‏.‏ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهموا بما لم ينالوا‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 74‏]‏، ولا يتعدّى إلى الذوات، فإذا عدّي إلى اسم ذات تعينّ تقدير معنى من المعاني التي تلابس الذات يدل عليها المقام كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد همت به‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 24‏]‏ أي همّت بمضاجعته‏.‏ وقد يذكر بعد اسم الذات ما يدل على المعنى الذي يُهَمّ به كما في قوله هنا‏:‏ ‏{‏ليأخذوه‏}‏ إن الهمّ بأخذه، وارتكابُ هذا الأسلوب لقصد الإجمال الذي يعقبه التفصيل، ومثله تعلق أفعال القلوب بالأسماء في ظننتك جائياً، أي ظننت مجيئك‏.‏

والأخذ يستعمل مجازاً بمعنى التصرف في الشيء بالعقاب والتعذيب والقتل ونحو ذلك من التنكيل، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فأخذهم أخذة رابية‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 10‏]‏ ويقال للأسير‏:‏ أخيذ، وللقتيل‏:‏ أخيذ‏.‏

واختير هذا الفعل هنا ليشمل مختلف ما هَمّت به كل أمة برسولها من قتل أو غيره كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبوتك أو يقتلوك أو يخرجوك‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 30‏]‏‏.‏

‏(‏والمعنى‏:‏ أن الأُمم السابقة من الكفرة لم يقتصروا على تكذيب الرسول بل تجاوزوا ذلك إلى غاية الأذى من الهمّ بالقتل كما حكى الله عن ثمود‏:‏ ‏{‏قالوا تقاسموا باللَّه لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 49‏]‏‏.‏ وقد تآمر كفار قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة دار الندوة ليقتلوه أن يتجمع نفر من جَميع عشائرهم فيضربوه بالسيوف ضربة رجل واحد كيلا يستطيع أولياؤه من بني هاشم الأخذ بثأره، فأخذ الله الأمم عقوبة لهم على همهم برسلهم فأهلكهم واستأصلهم‏.‏

ويفهم من تفريع قوله‏:‏ ‏{‏فأخذتهم‏}‏ على قوله‏:‏ ‏{‏وهَمَّتْ كُلُّ أُمة بِرَسولهم لِيَأْخُذوه‏}‏ إنذارُ المشركين أن همهم بقتل الرسول صلى الله عليه وسلم هو منتهى أمد الإِمهال لهم، فإذا صمّموا العزم على ذلك أخذهم الله كما أخذ الأمم المكذبة قبلهم حين همّت كل أمة برسولهم ليأخذوه فإن قريشاً لما همّوا بقتل الرسول صلى الله عليه وسلم أنجاه الله منهم بالهجرة ثم أمكنه من نواصيهم يوم بدر‏.‏ والمراد ب ‏{‏كُلُّ أُمَّة‏}‏ كل أمة من الأحزاب المذكورين‏.‏

وضمير ‏{‏وجادلوا بالباطل‏}‏ عائد على ‏{‏كُلُّ أُمَّة‏}‏‏.‏ والمقصود‏:‏ من تعداد جرائم الأمم السابقة من تكذيب الرسل والهمّ بقتلهم والجدال بالباطل تنظير حال المشركين النازل فيهم قوله‏:‏ ‏{‏ما يُجَادِلُ في آيَاتتِ الله إلا الذين كَفَرُوا‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 4‏]‏ بحال الأمم السابقين سواء، لينطبق الوعيد على حالهم أكمل انطباق في قوله‏:‏ ‏{‏فأخَذْتهُم فَكَيفَ كَانَ عِقابِ‏}‏‏.‏

والباء في قوله‏:‏ ‏{‏بالباطل‏}‏ للملابسة، أي جادلوا ملابسين للباطل فالمجرور في موضع الحال من الضمير، أو الباء لِلآلة بتنزيل الباطل منزلة الآلة لِجدالهم فيكون الظرف لغواً متعلقاً ب ‏{‏جادلوا‏}‏‏.‏ وتقييد ‏{‏جادلوا‏}‏ هذا بقيد كونه ‏{‏بالباطل‏}‏ يقتضي تقييد ما أطلق في قوله‏:‏ ‏{‏مَا يُجَادل في آيات الله إلاَّ الذينَ كَفَرُوا‏}‏‏.‏

والإِدحاض‏:‏ إبطال الحجة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏حجتهم داحضة عند ربهم‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 16‏]‏‏.‏ والمعنى‏:‏ أنهم زوروا الباطل في صورة الحقّ وروّجوه بالسفسطة في صورة الحُجَّة ليبْطلوا حجج الحق وكفى بذلك تشنيعاً لكفرهم‏.‏

وفُرع على قوله‏:‏ ‏{‏فأخذتهم‏}‏ قولُه‏:‏ ‏{‏فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ‏}‏ كما فُرّع قوله‏:‏ ‏{‏فَلا يَغررك تَقَلُّبهم في البِلاد‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 4‏]‏ على جملة ‏{‏ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 4‏]‏ فيجري توجيه الاستفهام هنا على نحو ما جرى من توجيه الخطاب هناك‏.‏

والأخذ هنا‏:‏ الغَلب‏.‏ والاستفهام ب ‏{‏كيف كانَ عقاب‏}‏ مستعمل في التعجيب من حالة العقاب وذلك يقتضي أن المخاطب بالاستفهام قد شاهد ذلك الأخذ والعقاب وإنما بني ذلك على مشاهدة آثار ذلك الأخذ في مرور الكثير على ديارهم في الأسفار كما أشار إليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإنها لبسبيل مقيم‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 76‏]‏ ونحوه، وفي سماع الأخبار عن نزول العقاب بهم وتوصيفهم، فنزل جميع المخاطبين منزلة من شاهد نزول العذاب بهم، ففي هذا الاستفهام تحقيق وتثبيت لمضمون جملة ‏{‏فأخذتهم‏}‏‏.‏

ويجوز أن يكون في هذا الاستفهام معنى التقرير بناء على أن المقصود بقوله‏:‏ ‏{‏كذَّبَت قبلهم قوم نوح‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏فأخذتهم‏}‏ التعريض بتهديد المشركين من قريش بتنبيههم على ما حلّ بالأمم قبلهم لأنهم أمثالهم في الإِشراك والتكذيب فلذلك يكون الاستفهام عمّا حلّ بنظرائهم تقريرياً لهم بذلك‏.‏

وحذفت ياء المتكلم من ‏{‏عقاب‏}‏ تخفيفاً مع دلالة الكسرة عليها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ‏(‏6‏)‏‏}‏

الواو عاطفة على جملة ‏{‏فكيف كان عِقَاب‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 5‏]‏، أي ومثل ذلك الحَقّ حقت كلمات ربك فالمشار إليه المصدَر المأخوذ من قوله‏:‏ ‏{‏حَقَّت كَلِماتُ رَبك‏}‏ على نحو ما قرر غير مرة، أولاها عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك جعلناكم أمة وسطاً‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏143‏)‏، وهو يفيد أن المشبه بلغ الغاية في وجه الشبه حتى لو أراد أحد أن يشبهه لم يشبهه إلا بنفسه‏.‏

ولك أن تجعل المشار إليه الأخْذَ المأخوذ من قوله‏:‏ ‏{‏فأخذتهم‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 5‏]‏، أي ومثل ذلك الأخذ الذي أخذ الله به قوم نوح والأحزابَ من بعدهم حقت كلمات الله على الذين كفروا، فعلم من تشبيه تحقق كلمات الله على الذين كفروا بذلك الأخذِ لأن ذلك الأخذ كان تحقيقاً لكلمات الله، أي تصديقاً لما أخبرهم به من الوعيد، فالمراد بالذين كفروا‏}‏ جميع الكافرين، فالكلام تعميم بعد تخصيص فهو تذييل لأن المراد بالأحزاب الأمم المعهودة التي ذكرت قصصها فيكون ‏{‏الذينَ كَفَروا‏}‏ أعم‏.‏ وبذلك يكون التشبيه في قوله‏:‏ ‏{‏وكذلك حقت كلمات ربك‏}‏ جارياً على أصل التشبيه من المغايرة بين المشبه والمشبه به، وليس هو من قبيل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك جعلناكم أمة وسطا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 143‏]‏ ونظائره‏.‏

ويجوز أن يكون المراد ب ‏{‏الذين كفروا‏}‏ عين المراد بقوله آنفاً‏:‏ ‏{‏ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 4‏]‏ أي مثل أخذ قوم نوح والأحزاب حقت كلمات ربك على كفار قومك، أي حقت عليهم كلمات الوعيد إذا لم يقلعوا عن كفرهم‏.‏

و ‏(‏كلمات الله‏)‏ هي أقواله التي أوحى بها إلى الرسل بوعيد المكذبين، و‏{‏على الذين كفروا‏}‏ يتعلق ب ‏{‏حقت‏.‏

وقوله‏:‏ أنهم أصحابُ النَّار‏}‏ يجوز أن يكون بدلاً من ‏{‏كلمات ربك‏}‏ بدلاً مطابقاً فيكون ضمير ‏{‏أنَّهُم‏}‏ عائد إلى ‏{‏الذين كفروا‏}‏، أي حق عليهم أن يكونوا أصحاب النار، وفي هذا إيماء إلى أن الله غير معاقب أمة الدعوة المحمدية بالاستئصال لأنه أراد أن يخرج منهم ذرية مؤمنين‏.‏

ويجوز أن يكون على تقدير لام التعليل محذوفةٍ على طريقة كثرة حذفها قبل ‏(‏أنَّ‏)‏‏.‏ والمعنى‏:‏ لأنهم أصحاب النار، فيكون ضمير ‏{‏أنَّهُم‏}‏ عائداً إلى جميع ما ذكر قبله من قوم نوح والأحزاب من بعدهم ومن الذين كفروا‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏كلمة ربك‏}‏ بالإِفراد‏.‏ وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر بصيغة الجمع، والإِفراد هنا مساو للجمع لأن المراد به الجنس بقرينة أن الضمير المجرور ب ‏(‏على‏)‏ تعلق بفعل ‏{‏حَقَّت‏}‏ وهو ضمير جمع فلا جرم أن تكون الكلمة جنساً صادقاً بالمتعدد بحسب تعدد أزمان كلمات الوعيد وتعدد الأمم المتوعَّدة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ‏(‏7‏)‏‏}‏

استئناف ابتدائي اقتضاه الانتقال من ذكر الوعيد المؤذن بذم الذين كفروا إلى ذكر الثناء على المؤمنين، فإن الكلام الجاري على ألسنة الملائكة مثل الكلام الجاري على ألسنة الرسل إذ الجميع من وحي الله، والمناسبة المضادَّةُ بين الحالين والمقالين‏.‏

ويجوز أن يكون استئنافاً بيانياً ناشئاً عن وعيد المجادلين في آيات الله أن يسأل سائل عن حال الذين لا يجادلون في آيات الله فآمنوا بها‏.‏

وخص في هذه الآية طائفة من الملائكة موصوفة بأوصاف تقتضي رفعة شأنهم تذرعاً من ذلك إلى التنويه بشأن المؤمنين الذين تستغفر لهم هذه الطائفة الشريفة من الملائكة، وإلا فإن الله قد أسند مثل هذا الاستغفار لعموم الملائكة في قوله في سورة ‏[‏الشورى‏:‏ 5‏]‏ ‏{‏والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض‏}‏ أي من المؤمنين بقرينة قوله فيها بعده‏:‏ ‏{‏والذين اتخذوا من دونه أولياء اللَّه حفيظ عليهم‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 6‏]‏‏.‏

و ‏{‏الذين يحمِلُون العَرْش‏}‏ هم الموكَّلون برفع العرش المحيط بالسماوات وهو أعظم السماوات، ولذلك أضيف إلى الله في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 17‏]‏‏.‏

‏(‏و ‏{‏من حَوله‏}‏ طائفة من الملائكة تحفّ بالعرش تحقيقاً لعظمته قال تعالى‏:‏ ‏{‏وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 75‏]‏، ولا حاجة إلى الخوض في عددهم ‏{‏وما يعلم جنود ربك إلا هو‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 31‏]‏‏.‏

‏(‏والإِخبار عن صنفي الملائكة بأنهم يسبحون ويؤمنون به؛ توطئة وتمهيد للإخبار عنهم بأنهم يستغفرون للذين آمنوا فذلك هو المقصود من الخبر، فقدم له ما فيه تحقيق استجابة استغفارهم لصدوره ممن دأبهم التسبيح وصفتهم الإِيمان‏.‏

وصِيغةُ المضارع في ‏{‏يسبحون‏}‏ و‏{‏يؤمنون‏}‏ و‏{‏يستغفرون‏}‏ مفيدة لتجدد ذلك وتكرره، وذلك مشعر بأن المراد أنهم يفعلون ذلك في الدنيا كما هو الملائم لقوله‏:‏ ‏{‏فاغفر للذين تابوا‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وأدخِلهم جَنَّات عَدننٍ التي وعَدتَّهُم‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 8‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ومَن تَقِ السَّيِئات‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 9‏]‏ الخ وقد قال في الآية الأخرى ‏{‏ويستغفرون لمن في الأرض‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 5‏]‏ أي من المؤمنين كما تقدم‏.‏

ومعنى تجدد الإِيمان المستفاد من ‏{‏ويؤمنون‏}‏ تجدد ملاحظته في نفوس الملائكة وإلا فإن الإِيمان عقد ثابت في النفوس وإنما تجدده بتجدد دلائله وآثاره‏.‏ وفائدة الإخبار عنهم بأنهم يؤمنون مع كونه معلوماً في جانب الملائكة التنويهُ بشأن الإِيمان بأنه حال الملائكة، والتعريضُ بالمشركين أن لم يكونوا مثل أشرف أجناس المخلوقات مثل قوله تعالى في حق إبراهيم ‏{‏وما كان من المشركين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 161‏]‏‏.‏

وجملة ‏{‏رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شيء رَحْمَة وعِلمَاً‏}‏ مبيّنة ل ‏{‏يستغفرون‏}‏، وفيها قول محذوف دلت عليه طريقة التكلم في قولهم‏:‏ ‏{‏ربنا‏}‏‏.‏

والباء في ‏{‏بِحَمْد رَبهِم‏}‏ للملابسة، أي يسبحون الله تسبيحاً مصاحباً للحمد، فحذف مفعول ‏{‏يسبحون‏}‏ لدلالة المتعلِّق به عليه‏.‏

والمراد ب ‏{‏الذين آمنوا‏}‏ المؤمنون المعهودون وهم المؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم لأنهم المقصود في هذا المقام وإن كان صالحاً لكل المؤمنين‏.‏

وافتتح دعاء الملائكة للمؤمنين بالنداء لأنه أدخل في التضرع وأرجى للإِجابة، وتوجهوا إلى الله بالثناء بسعة رحمته وعلمه لأن سعة الرحمة مما يُطمِع باستجابة الغفران، وسعة العلم تتعلق بثبوت إيماننِ الذين آمنوا‏.‏

ومعنى السعة في الصفتين كثرة تعلقاتهما، وذكر سعة العلم كناية عن يقينهم بصدق إيمان المؤمنين فهو بمنزلة قول القائل، أنت تعلم أنهم آمنوا بك ووحّدوك‏.‏

وجيء في وصفه تعالى بالرحمة الواسعة والعلم الواسع بأسلوب التمييز المحوَّل عن النسبة لما في تركيبه من المبالغة بإسناد السعة إلى الذات ظاهراً حتى كأنَّ ذاته هي التي وَسِعَتْ، فذلك إجمال يستشرف به السامع إلى ما يرِد بعدَه فيجيء بعده التمييز المبيِّن لنسبة السعة أنها من جانب الرحمة وجانب العلم، وهي فائدة تمييز النسبة في كلام العرب، لأن للتفصيل بعد الإِجمال تمكيناً للصفة في النفس كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واشتعل الرأس شيباً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 4‏]‏‏.‏ والمراد أن الرحمة والعلم وَسِعَا كل موجود، الآن، أي في الدنيا وذلك هو سياق الدعاء كما تقدم آنفاً، فما من موجود في الدنيا إلا وقد نالته قسمة من رحمة الله سواء في ذلك المؤمن والكافر والإِنسان والحيوان‏.‏

و ‏{‏كُلَّ شيءٍ‏}‏ كل موجود، وهو عام مخصوص بالعقل بالنسبة للرحمة، أي كل شيء محتاج إلى الرحمة، وتلك هي الموجودات التي لها إدراك تدرك به الملائم والمنافر والنافع والضار، من الإِنسان والحيوان، إذ لا فائدة في تعلق الرحمة بالحَجر والشجر ونحوهما‏.‏ وأما بالنسبة إلى العلم فالعموم على بابه قال تعالى‏:‏ ‏{‏ألا يعلم من خلق‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 14‏]‏‏.‏

ولما كان سياق هذا الدعاء أنه واقع في الدنيا كما تقدم اندفع ما عسى أن يقال إن رحمة الله لا تسع المشركين يوم القيامة إذ هم في عذاب خالد فلا حاجة إلى تخصيص عموم كل شيء بالنسبة إلى سعة الرحمة بمخصصات الأدلة المنفصلة القاضية بعدم سعة رحمة الله للمشركين بعد الحساب‏.‏

وتَفَرع على هذه التوطئة بمناجاة الله تعالى ما هو المتوسَّل إليه منها وهو طلب المغفرة للذين تابوا لأنه إذا كان قد عَلم صدق توبة من تاب منهم وكانت رحمته وسعت كلَّ شيء فقد استحقوا أن تشملهم رحمته لأنهم أحرياء بها‏.‏

ومفعولُ ‏{‏فاغفر‏}‏ محذوف للعلم، أي اغفر لهم ما تابوا منه، أي ذنوب الذين تابوا‏.‏ والمراد بالتوبة‏:‏ الإِقلاع عن المعاصي وأعظمها الإشراك بالله‏.‏

واتباع سبيل الله هو العمل بما أمرهم واجتنابُ ما نهاهم عنه، فالإِرشاد يشبه الطريق الذي رسمه الله لهم ودلهم عليه فإذا عملوا به فكأنهم اتبعوا السبيل فمشَوا فيه فوصلوا إلى المقصود‏.‏

‏{‏وَقِهم عذاب الجحيم‏}‏ عطف على ‏{‏فاغفر‏}‏ فهو من جملة التفريع فإن الغفران يقتضي هذه الوقاية لأن غفران الذنب هو عدم المؤاخذة به‏.‏ وعذاب الجحيم جعله الله لِجزاء المذنبين، إلا أنهم عضدوا دلالة الالتزام بدلالة المطابقة إظهاراً للحرص على المطلوب‏.‏ والجحيم‏:‏ شدة الالتهاب، وسميت به جهنم دارُ الجزاء على الذنوب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 9‏]‏

‏{‏رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏8‏)‏ وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏9‏)‏‏}‏

إعادة النداء في خلال جمل الدعاء اعتراض للتأكيد بزيادة التضرع، وهذا ارتقاء من طلب وقايتهم العذاب إلى طلب إدخالهم مكان النعيم‏.‏

والعَدْن‏:‏ الإِقامة، أي الخلود‏.‏ والدعاء لهم بذلك مع تحققهم أنهم موعودون به تأدُب مع الله تعالى لأنه لا يُسأل عما يفعل، كما تقدم في سورة ‏[‏آل عمران‏:‏ 194‏]‏ قوله‏:‏ ‏{‏ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك‏}‏

ويجوز أن يكون المراد بقولهم‏:‏ ‏{‏وأدخلهم‏}‏ عَجِّل لهم بالدخول‏.‏ ويجوز أن يكون ذلك تمهيداً لقولهم‏:‏ ‏{‏وَمَن صَلَح من آبائهم وأزواجهم وذريتهم‏}‏ فإن أولئك لم يكونوا موعودين به صريحاً‏.‏ و‏{‏من صلح‏}‏ عطف على الضمير المنصوب في ‏{‏أدخلهم‏}‏‏.‏

والمعنى دعاء بأن يجعلهم الله معهم في مساكن متقاربة، كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هم وأزواجهم في ظلال‏}‏ في سورة ‏[‏يس‏:‏ 56‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏ألحقنا بهم ذرياتهم‏}‏ في سورة ‏[‏الطور‏:‏ 21‏]‏‏.‏

ورُتبت القرابات في هذه الآية على ترتيبها الطبيعي فإن الآباء أسبق علاقة بالأبناء ثم الأزواجُ ثم الذريات‏.‏

وجملة ‏{‏إنَّك أنت العَزِيز الحَكِيم‏}‏ اعتراض بين الدعوات استقصاء للرغبة في الإِجابة بداعي محبة الملائكة لأهل الصلاح لما بين نفوسهم والنفوس الملكية من التناسب‏.‏ واقتران هذه الجملة بحرف التأكيد للاهتمام بها‏.‏ و‏(‏إنَّ‏)‏ في مثل هذا المقام تُغني غَناء فاء السببية، أي فعزتُك وحكمتك هما اللتان جَرَّأَتَانَا على سؤال ذلك من جلالك، فالعزة تقتضي الاستغناء عن الانتفاع بالأشياء النفيسة فلما وَعد الصالحين الجنة لم يكن لله ما يضنه بذلك فلا يصدر منه مطل، والحكمةُ تقتضي معاملة المحسن بالإِحسان‏.‏

وأعقبوا بسؤال النجاة من العذاب والنعيم بدار الثواب بدعاء بالسلامة من عموم كل ما يسوءهم يوم القيامة بقولهم‏:‏ ‏{‏وَقِهِم السيئات‏}‏ وهو دعاء جامع إذ السيئات هنا جمع سيئة وهي الحالة أو الفعلة التي تسوء من تعلقت به مثل ما في قوله‏:‏ ‏{‏فوقاه اللَّه سيئات ما مكروا‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 45‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 131‏]‏ صيغت على وزن فَيْعَلَة للمبالغة في قيام الوصف بالموصوف مثل قيّم وسيّد وصيقل، فالمعنى‏:‏ وقِهِمْ من كل ما يسوءهم‏.‏

فالتعريف في ‏{‏السَّيّئَاتِ‏}‏ للجنس وهو صالح لإِفادة الاستغراق، فوقوعه في سياق ما هو كالنفي وهو فعل الوقاية يفيد عموم الجنس، على أن بساط الدعاء يقتضي عموم الجنس ولو بدون لام نفي كقول الحريري‏:‏

يا أهلَ ذا المغنى وُقيتم ضُرا ***

وفي الحديث «اللهم أعط منفقاً خَلفاً، ومُمسكاً تلَفاً» أي كلّ منفق ومُمسك‏.‏

والمراد‏:‏ إبلاغ هؤلاء المؤمنين أعلى درجات الرضى والقبول يومَ الجزاء بحيث لا ينالهم العذاب ويكونون في بحبوحة النعيم ولا يعتريهم ما يكدرهم من نحو التوبيخ والفضيحة‏.‏ وقد جاء هذا المعنى في آيات كثيرة كقوله‏:‏ ‏{‏فوقاهم اللَّه شر ذلك اليوم‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 11‏]‏‏.‏

وجملة ‏{‏ومن تَققِ السَّيئات يومئذ فقد رحمته‏}‏ تذييل، أي وكل من وقي السيئات يوم القيامة فقد نالته رحمة الله، أي نالته الرحمة كاملة ففعل ‏{‏رحمته‏}‏ مراد به تعظيم مصدره‏.‏

وقد دل على هذا المراد في هذه الآية قوله‏:‏ ‏{‏وذلك هُوَ الفَوْزُ العَظِيم‏}‏ إذ أشير إلى المذكور من وقاية السيئات إشارةً للتنويه والتعظيم‏.‏ ووصف الفوز بالعظيم لأنه فوز بالنعيم خالصاً من الكدرات التي تنقص حلاوة النعمة‏.‏

وتنوين ‏{‏يومئذ‏}‏ عوض عن المضاف إليه، أي يوم إذ تدخلهم جنات عدن‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

مقابلةُ سؤال الملائكةِ للمؤمنين بالنعيم الخالص يوم القيامة بما يخاطَب به المشركون يومئذٍ من التوبيخ والتنديم وما يراجِعون به من طلب العفو مؤذنة بتقدير معنى الوعد باستجابةِ دعاء الملائكة للمؤمنين، فطيُّ ذكرِ ذلك ضرب من الإِيجاز‏.‏

والانتقال منه إلى بيان ما سيحل بالمشركين يومئذٍ ضرب من الأسلوب الحكيم لأن قوله‏:‏ ‏{‏إنَّ الذين كفروا ينادون‏}‏ الآيات مستأنف استئنافاً بيانياً كأنَّ سائلاً سأل عن تقبل دعاء الملائكة للمؤمنين فأجيب بأن الأهم أن يسأل عن ضد ذلك، وفي هذا الأسلوب إيماء ورمز إلى أن المهم من هذه الآيات كلها هو موعظة أهل الشرك رجوعاً إلى قوله‏:‏ ‏{‏وكذلك حقت كلمات ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 6‏]‏ والمراد بالذين كفروا هنا مشركو أهل مكة، فإنهم المقصود بهذه الأخبار كما تقدم آنفاً في قوله‏:‏ ‏{‏ويستغفرون للذين آمنوا‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 7‏]‏‏.‏

والمعنى‏:‏ أنهم يناديهم الملائكة تبليغاً عن رب العزة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك ينادون من مكان بعيد‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 44‏]‏ وهو بعد عن مرتبة الجلال، أي ينادون وهم في جهنم كما دل عليه قوله‏:‏ ‏{‏فهل إلى خروج من سبيل‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 11‏]‏‏.‏

واللام في ‏{‏لَمَقْتُ الله‏}‏ لام القسم‏.‏ والمقت‏:‏ شدة البغض‏.‏ و‏{‏إذْ تُدْعَون‏}‏ ظرف ل ‏{‏مَقتكم أنفسكم‏}‏‏.‏

و ‏{‏إذ‏}‏ ظرف للزمن الماضي، أي حينَ كنتم تدعون إلى الإيمان على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم وذلك في الدنيا بقرينة ‏{‏تُدعون‏}‏ وجيء بالمضارع في ‏{‏تُدعَون‏}‏ و‏{‏تَكفرون‏}‏ للدلالة على تكرر دعوتهم إلى الإِيمان وتكرر كفرهم، أي تجدده‏.‏

ومعنى‏:‏ مقتهم أنفسهم حينئذٍ أنهم فعلوا لأنفسهم ما يُشبه المقت إذ حرموها من فضيلة الإِيمان ومحاسن شرائعه ورضُوا لأنفسهم دين الكفر بعد أن أوقظوا على ما فيه من ضلال ومَغِبَّة سوءٍ، فكان فعلهم ذلك شبيهاً بفعل المرء لبغيضه من الضر والكيد، وهذا كما يقال‏:‏ فلان عدو نفسه‏.‏ وفي حديث سعد بن أبي وقاص عن عمر بن الخطاب أن عمر قال لنساء من قريش يسألْنَ النبي صلى الله عليه وسلم ويستكثرن، فلما دخل عمر ابتدَرْن الحجاب فقال لهن‏:‏ «يا عدُوَّاتتِ أنفسهن أتهبنَني ولا تهِبْنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

فالمقت مستعار لِقلة التدبر فيما يضر‏.‏ وقد أشار إلى وجه هذه الاستعارة قوله‏:‏ ‏{‏إذْ تُدْعون إلى الإيمان فتكفرون‏}‏ فمناط الكلام هو ‏{‏فتكفرون‏}‏ وفي ذكر ‏{‏ينادون‏}‏ ما يدل على كلام محذوف تقديره‏:‏ أن الذين كفروا يمقتهم الله وينادَون لمقتُ الله الخ‏.‏

ومعنى مقت الله‏:‏ بغضه إياهم وهو مجاز مرسل أطلق على المعاملة بآثار البغض من التحقير والعقاب فهو أقرب إلى حقيقة البغض لأن المراد به أثره وهو المعاملة بالنكال، وهو شائع شيوع نظائره مما يضاف إلى الله مما تستحيل حقيقته عليه، وهذا الخبر مستعمل في التوبيخ والتنديم‏.‏

و ‏{‏أكبر‏}‏ بمعنى أشد وأخطر أثَراً، فإطلاق الكِبَر عليه مجاز لأن الكبر من أوصاف الأجسام لكنه شاع إطلاقه على القوة في المعاني‏.‏

ولما كان مقتهم أنفسهم حَرَمهم من الإِيمان الذي هو سبب النجاة والصلاح وكان غضب الله عليهم أوقعهم في العذاب كان مقت الله إياهم أشدّ وأنكى من مقتهم أنفسهم لأن شدة الإِيلام أقوى من الحرمان من الخير‏.‏ والمقت الأول قريب من قوله‏:‏ ‏{‏أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 16‏]‏، والمقت الثاني قريب من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلاّ مقتاً‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 39‏]‏ وهو مقت العذاب‏.‏ هذا هو الوجه في تفسير الآية الملاقي لتناسق نظمها، وللمفسرين فيها وجوه أخر تدنو وتبعد مما ذكرنا فاستعرِضْها واحكم فيها‏.‏

و ‏{‏أنفسكم‏}‏ يتنازعه ‏{‏مقتُ الله،‏}‏ و‏{‏مقتِكم‏}‏ فهو مفعول المصدرين المضافين إلى فاعلَيهما‏.‏

وبني فعل ‏{‏تدعون‏}‏ إلى النائب للعلم بالفاعل لظهور أن الداعي هو الرسول صلى الله عليه وسلم أو الرسل عليهم السلام‏.‏ وتفريع ‏{‏فتكفرون‏}‏ بالفاء على ‏{‏تدعون‏}‏ يفيد أنهم أعقبوا الدعوة بالكفر، أي بتجديد كفرهم السابق وبإعلانه أي دون أن يتمهلوا مهلة النظر والتدبر فيما دُعوا إليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ ‏(‏11‏)‏‏}‏

جواب عن النداء الذي نودوا به من قِبل الله تعالى فحكي مقالهم على طريقة حكاية المحاورات بحذف حرف العطف، طمعوا أن يكون اعترافهم بذنوبهم وسيلة إلى منحهم خروجاً من العذاب خروجاً مَّا ليستريحوا منه ولو بعضَ الزمن، وذلك لأن النداء الموجه إليهم من قبل الله أوهمهم أن فيه إقبالاً عليهم‏.‏

والمقصود من الاعتراف هو اعترافهم بالحياة الثانية لأنهم كانوا ينكرونها وأما الموتتان والحياة الأولى فإنما ذُكِرْن إِدماجاً للاسْتدلال في صُلب الاعتراف تزلفاً منهم، أي أيقَنَّا أن الحياة الثانية حق وذلك تعريض بأن إقرارهم صدق لا مواربة فيه ولا تصنع لأنه حاصل عن دليل، ولذلك جعل مسبباً على هذا الكلام بعطفه بفاء السببية في قوله‏:‏ ‏{‏فاعترفنا بذُنُوبنا‏}‏‏.‏

والمراد بإحدى الموتتين‏:‏ الحالةُ التي يكون بها الجنين لَحْماً لا حياة فيه في أول تكوينه قبل أن يُنفخ فيه الروح، وإطلاق الموت على تلك الحالة مجاز وهو مختار الزمخشري والسكاكي بناء على أن حقيقة الموت انعدام الحياة من الحي بعد أن اتصف بالحياة، فإطلاقه على حالة إنعدام الحياة قبلَ حصولها فيه استعارةٌ، إلا أنها شائعة في القرآن حتى ساوت الحقيقة فلا إشكال في استعمال ‏{‏أمتنا‏}‏ في حقيقته ومجازه، ففي ذلك الفعل جمع بين الحقيقة والاستعارة التبعية تبعاً لِجريان الاستعارة في المصدر، ولا مانع من ذلك لأنه واقع ووارد في الكلام البليغ كاستعمال المشترككِ في معنييه، والذين لا يرون تقييد مدلول الموت بأن يكون حاصلاً بعد الحياة يكون إطلاق الموت على حالة ما قبل الاتصاف بالحياة عندهم واضحاً، وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكنتم أمواتاً فأحياكم‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 28‏]‏، على أن إطلاق الموت على الحالة التي قبل نفخ الروح في هذه الآية أسوغ لأن فيه تغليباً للموتة الثانية‏.‏ وأما الموتة الثانية فهي الموتة المتعارفة عند انتهاء حياة الإنسان والحيوان‏.‏

والمراد بالاحياءتَيْن‏:‏ الاحياءة الأولى عند نفخ الروح في الجسد بعد مبدأ تكوينه، والإِحياءة الثانية التي تحصل عند البعث، وهو في معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 28‏]‏‏.‏

وانتصب ‏{‏اثنتين‏}‏ في الموضعين على الصفة لمفعول مطلق محذوف‏.‏ والتقدير‏:‏ موتتين اثنتين وإحياءتَيْن اثنتين فيجيء في تقدير موتتين تغليب الاسم الحقيقي على الاسم المجازي عند من يُقيِّد معنى الموت‏.‏

وقد أورد كثير من المفسرين إشكال أن هنالك حياةً ثالثة لم تذكر هنا وهي الحياةُ في القبر التي أشار إليها حديث سؤال القَبر وهو حديث اشتهر بين المسلمين من عهد السلف، وفي كون سؤال القبر يقتضي حياة الجسم حياة كاملة احتمال، وقد يُتأول بسؤال روح الميت عِند جسده أو بحصول حياة بعض الجسد أو لأنها لما كانت حياة مؤقتة بمقدار السؤال ليس للمتصف بها تصرف الإِحياء في هذا العالم، لم يعتد بها لاسيما والكلام مراد منه التوطئة لسؤال خروجهم من جهنم، وبهذا يعلم أن الآية بمعزل عن أن يستدل بها لثبوت الحياة عند السؤال في القبر‏.‏

وتفرع قولهم‏:‏ ‏{‏فاعترفنا بذُنُوبنا‏}‏ على قولهم‏:‏ ‏{‏وأحييتنا اثنتين‏}‏ اعتبار أن إحدى الإِحياءتين كانت السبب في تحقق ذنوبهم التي من أصولها إنكارهم البعث فلما رأوا البعث رأي العين أيقنوا بأنهم مذنبون إذ أنكروه ومذنبون بما استكثروه من الذنوب لاغترارهم بالأمن من المؤاخذة عليهم بعد الحياة العاجلة‏.‏

فجملة ‏{‏فاعترفنا بذُنُوبنا‏}‏ إنشاء إقرار بالذنوب ولذلك جيء فيه بالفعل الماضي كما هو غالب صيغ الخبر المستعمل في الإِنشاء مثل صيغ العقود نحو‏:‏ بعتُ‏.‏ والمعنى‏:‏ نعترف بذنوبنا‏.‏

وجعلوا هذا الاعتراف ضرباً من التوبة توهماً منهم أن التوبة تنفع يومئذٍ، فلذلك فرعوا عليه‏:‏ ‏{‏فَهَل إلى خُرُوج مِن سبيل‏}‏، فالاستفهام مستعمل في العَرض والاستعطاف كلياً لرفع العذاب، وقَد تكرر في القرآن حكاية سؤال أهل النار الخروجَ أو التخفيف ولو يوماً‏.‏

والاستفهام بحرف ‏{‏هَل‏}‏ مستعمل في الاستعطاف‏.‏ وحرف ‏{‏مِن‏}‏ زائد لتوكيد العموم الذي في النكرة ليفيد تطلبهم كل سبيل للخروج وشأن زيادة ‏{‏مِن‏}‏ أن تكُون في النفي وما في معناه دون الاثبات‏.‏ وقد عُدّ الاستفهام ب ‏{‏هل‏}‏ خاصة من مواقع زيادة ‏{‏مِن‏}‏ لتوكيد العموم كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتقول هل من مزيد‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 30‏]‏، وتقدم ذلك عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا‏}‏ في سورة ‏[‏الأعراف‏:‏ 53‏]‏، وأن وجه اختصاص ‏{‏هَل بوقوع مِن الزائدة في المستفهم عنه بها أنه كثر استعمال الاستفهام بها في معنى النفي، وزيادةُ من حينئذٍ لتأكيد النفي وتنصيص عموم النفي، فخف وقوعها بعد هل على ألسن أهل الاستعمال‏.‏

وتنكير خروج للنَّوعية تلطفاً في السؤال، أي إلى شيء من الخروج قليللٍ أو كثير لأن كل خروج يتنفعون به راحةٌ من العذاب كقولهم‏:‏ ‏{‏ادعوا ربكم يخفف عنا يوماً من العذاب‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 49‏]‏‏.‏

والسبيل‏:‏ الطريق واستعير إلى الوسيلة التي يحصل بها الأمر المرغوب، وكثُر تصرف الاستعمال في إطلاقات السبيل والطريق والمسلك والبلوغ على الوسيلة وبحصول المقصود‏.‏

وتنكير ‏{‏سبيل‏}‏ كتنكير ‏{‏خروج‏}‏ أي من وسيلة كيف كانت بحق أو بعفو بتخفيف أو غير ذلك‏.‏

قال في «الكشاف» «وهذا كلامُ من غلب عليه اليأس والقنوط» يريد أَنَّ في اقتناعهم بخروج مَّا دلالة على أنهم يستبعدون حُصول الخروج‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ ‏(‏12‏)‏‏}‏

عدل عن جوابهم بالحرمان من الخروج إلى ذكر سبب وقوعهم في العذاب، وإذ قد كانوا عالمين به حين قالوا‏:‏ ‏{‏فاعترفنا بذنوبنا‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 11‏]‏، كانت إعادة التوقيف عليه بعد سؤال الصفح عنه كنايةً عن استدامته وعدم استجابة سؤالهم الخروج منه على وجه يشعر بتحقيرهم‏.‏ وزيد ذلك تحقيقاً بقوله‏:‏ ‏{‏فالحُكمُ لله العَلِي الكَبِير‏}‏‏.‏

فالإِشارة ب ‏{‏ذلكم‏}‏ إلى ما هم فيه من العذاب الذي أنبأ به قوله‏:‏ ‏{‏يُنادون لمقتُ الله أكبر من مقتِكم أنفُسكم‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 10‏]‏ وما عقب به من قولهم‏:‏ ‏{‏فهل إلى خروج من سبيل‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 11‏]‏‏.‏

والباء في ‏{‏بأنه‏}‏ للسببية، أي بسبب كفركم إذا دُعي الله وحده‏.‏ وضمير ‏{‏بأنه‏}‏ ضمير الشأن، وهو مفسر بما بعده من قوله‏:‏ ‏{‏إذا دُعِيَ الله وحْدَه كفرتُم وإن يُشْرك به تُؤمنُوا‏}‏، فالسبب هو مضمون القصة الذي حاصل سبكِه‏:‏ بكفركم بالوحدانية وإيمانكم بالشرك‏.‏

و ‏{‏إذا‏}‏ مستعملة هنا في الزمن الماضي لأن دعاء الله واقع في الحياة الدنيا وكذلك كفرهم بوحدانية الله، فالدعاء الذي مضى مع كفرهم به كان سبب وقوعهم في العذاب‏.‏

ومجيء ‏{‏وإنْ يُشْرك بِهِ تُؤْمِنُوا‏}‏ بصيغة المضارع في الفعلين مؤوّل بالماضي بقرينة ما قبله، وإيثار صيغة المضارع في الفعلين لدلالتهما على تكرر ذلك منهم في الحياة الدنيا فإن لتكرره أثراً في مضاعفة العذاب لهم‏.‏

والدعاء‏:‏ النداء، والتوجهُ بالخطاب‏.‏ وكلا المعنيين يستعمل فيه الدعاء ويطلق الدعاء على العبادة، كما سيأتي عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقال ربكم ادعُوني أستَجِب لَكُم‏}‏ في هذه السورة ‏[‏60‏]‏، فالمعنى إذا نودي الله بمسمعكم نداء دالاً على أنه إله واحد مثل آيات القرآن الدالة على نداء الله بالوحدانية، فالدعاء هنا الإِعلان والذكر، ولذلك قوبل بقوله‏:‏ ‏{‏كَفَرْتُم وإن يُشْرَك بهِ تُؤْمِنُوا‏}‏، والدعاء بهذا المعنى أعم من الدعاء بمعنى سؤال الحاجات ولكنه يشمله، أو إذا عُبد الله وحده‏.‏

ومعنى ‏{‏كفرتم‏}‏ جدّدتم الكفر، وذلك إمّا بصدور أقوال منهم ينكرون فيها انفراد الله بالإلهية، وإمّا بملاحظة الكفر ملاحظةً جديدة وتذكر آلهتهم‏.‏ ومعنى‏:‏ ‏{‏وإن يُشْرك به تُؤمنوا‏}‏ إن يَصدر ما يدل على الإِشراك بالله من أقوال زعمائهم ورفاقهم الدالة على تعدد الآلهة أو إذا أُشرك به في العبادة تؤمنوا، أي تجددوا الإيمان بتعدد الآلهة في قُلوبكم أو تؤيدوا ذلك بأقوال التأييد والزيادة‏.‏ ومتعلِّق ‏{‏كفرتم‏}‏ و‏{‏تؤمنوا‏}‏ محذوفان لدلالة ما قبلهما‏.‏ والتقدير‏:‏ كفرتم بتوحيده وتؤمنوا بالشركاء‏.‏

وجيء في الشرط الأول ب ‏{‏إذا التي الغالب في شرطها تحقق وقوعه إشارة إلى أن دعاء الله وحده أمر محقق بين المؤمنين لا تخلو عنه أيامهم ولا مجامعهم، مع ما تفيد إذا من الرغبة في حصول مضمون شرطها‏.‏

وجيء في الشرط الثاني بحرف إنْ التي أصلها عدم الجزم بوقوع شرطها، أو أَنَّ شرطها أمر مفروض، مع أن الإِشراك مُحقق تنزيلاً للمحقق منزلة المشكوك المفروض للتنبيه على أن دلائل بطلان الشرك واضحة بأدنى تأمل وتدبر فنزل إشراكهم المحقق منزلة المفروض لأن المقام مشتمل على ما يَقلَع مضمون الشرط من أصله فلا يصلح إلاّ لفرضه على نحو ما يفرض المعدوم موجوداً أو المحال ممكناً‏.‏

والألف واللام في الحكم للجنس‏.‏ واللام في لله للملككِ أي جنس الحكم ملك لله، وهذا يفيد قصر هذا الجنس على الكون لله كما تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏الحمد لله‏}‏ في سورة ‏[‏الفاتحة‏:‏ 2‏]‏ وهو قصر حقيقي إذ لا حكم يوم القيامة لغير الله تعالى‏.‏

وبهذه الآية تمسك الحرورية يوم حروراء حين تداعَى جيش الكوفة وجيش الشام إلى التحكيم فثارت الحرورية على علي بن أبي طالب وقالوا‏:‏ لا حُكم إلا لله ‏(‏جعلوا التعريف للجنس والصيغة للقصر‏)‏ وحدَّقوا إلى هذه الآية وأغضوا عن آيات جَمَّة، فقال عليّ لما سمعها‏:‏ «كلمةُ حَقَ أُريد بها باطل» اضطرب الناس ولم يتم التحكيم‏.‏

وإيثار صفتي ‏{‏العَلِيّ الكَبِير‏}‏ بالذكر هنا لأن معناهما مناسب لحِرمانهم من الخروج من النار، أي لِعدم نقض حكم الله عليهم بالخلود في النار، لأن العلوّ في وصفه تعالى علوّ مجازي اعتباري بمعنى شرف القدر وكماله، فهو العلي في مراتب الكمالات كلها بالذات، ومن جملة ما يقتضيه ذلك تمامُ العلم وتمامُ العدل، فلذلك لا يَحكم إلا بما تقتضيه الحكمة والعدل‏.‏

ووصف ‏{‏الكبير‏}‏ كذلك هو كبَر مجازي، وهو قوة صفات كماله، فإن الكبير قوي وهو الغنيُّ المطلق، وكلا الوصفين صيغ على مثال الصفة المشبهة للدلالة على الاتصاف الذاتي المكين، وإنما يقبل حكم النقض لأحد أمرين إما لعدم جريه على ما يقتضيه من سبب الحكم وهو النقض لأجل مخالفة الحق وهذا ينافيه وصف ‏{‏العلي،‏}‏ وإمَّا لأنه جَور ومجاوز للحد، وهذا ينافيه وصف ‏{‏الكبير‏}‏ لأنه يقتضي الغِنَى عن الجور‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آَيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ ‏(‏13‏)‏‏}‏

هذا استئناف ابتدائي إقبالٌ على خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بعد أن انقضى وصف ما يلاقي المشركون من العذاب، وما يدعون من دعاء لا يستجاب، وقرينة ذلك قوله‏:‏ ‏{‏ولو كره الكافرون‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 14‏]‏‏.‏

ومناسبة الانتقال هي وصفَا ‏{‏العلي الكبير‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 12‏]‏ لأن جملة ‏{‏يريكم آياته‏}‏ تناسب وصف العلوّ، وجملة ‏{‏ينزل لكم من السماء رزقاً‏}‏ تناسب وصف ‏{‏الكبير‏}‏ بمعنى الغَنِيّ المطلق‏.‏

والآيات‏:‏ دلائل وجوده ووحدانيتِه‏.‏ وهي المظاهر العظيمة التي تبدو للناس في هذا العالم كقوله‏:‏ ‏{‏هو الذي يريكم البرق خوفاً وطمعاً‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 12‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 190‏]‏‏.‏ وتنزيل الرزق من السماء هو نزول المطر لأن المطر سبب الرزق وهو في نفسه آية أدمج معها امتنان، ولذلك عُقب الأمران بقوله‏:‏ ‏{‏ومَا يَتَذَكَّرُ إلا مَن يُنيب‏}‏‏.‏

وصيغة المضارع في ‏{‏يريكم‏}‏ و‏{‏ينزل‏}‏ تدل على أن المراد إراءة متجددة وتنزيل متجدد وإنما يكون ذلك في الدنيا، فتعين أن الخطاب مستأنف مراد به المؤمنون وليس من بقية خطاب المشركين في جهنم، ويزيد ذلك تأييداً قوله‏:‏ ‏{‏فادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 14‏]‏‏.‏

‏(‏وعُدي فعلاً ‏(‏يرى‏)‏ و‏{‏ينزل‏}‏ إلى ضمير المخاطبين وهم المؤمنون لأنهم الذين انتفعوا بالآيات فآمنوا وانتفعوا بالرزق فشكروا بالعمل بالطاعات فجُعل غيرهم بمنزلة غير المقصودين بالآيات لأنهم لم ينتفعوا بها كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 43‏]‏ فجَعل غير العالمين كمن لا يعقل ولا يفقه‏.‏

ولذلك ذيلت إراءة الآيات وإنزالُ الرزق لهم بقوله‏:‏ ‏{‏وما يتذكر إلا من ينيب‏}‏ أي من آمن ونبذ الشرك لأن الشرك يصدّ أهله عن الإِنصاف وإعمال النظر في الأدلة‏.‏

والإِنابة‏:‏ التوبة، وفي صيغة المضارع إشارة إلى أن الإِنابة المحصلة للمطلوب هي الإِنابة المتجددة المتكررة، وإذ قد كان المخاطبون منيبين إلى الله كان قوله‏:‏ ‏{‏وما يتذكر إلاّ من ينيب‏}‏ دَالاً بدلالة الاقتضاء على أنهم رأوا الآيات واطمأنوا بها وأنهم عرفوا قدر النعمة وشكروها فكان بين الإِنابة وبين التذكر تلازم عادي، ولذلك فجملة ‏{‏وما يتذكر إلاّ من ينيب‏}‏ تذييل‏.‏

وتقديم ‏{‏لكم‏}‏ على مفعول ‏{‏يُنزل‏}‏ وهو ‏{‏رزقاً‏}‏ لكمال الامتنان بأن جُعل تنزيل الرزق لأجل الناس ولو أخر المجرور لصار صفة ل ‏{‏رِزْقاً‏}‏ فلا يفيد أن التنزيل لأجل المخاطَبين بل يفيد أن الرزق صالح للمخاطبين وبين المعنيين بون بعيد، فكان تقديم المجرور في الترتيب على مفعول الفعل على خلاف مقتضى الظاهر لأن حق المفعول أن يتقدم على غيره من متعلِّقات الفعل وإنما خولف الظاهر لهذه النكتة‏.‏

وجُعل تنزيل الرزق لأَجل المخاطبين وهم المؤمنون إشارة إلى أن الله أراد كرامتهم ابتداء وأن انتفاع غيرهم بالرزق انتفاع بالتبع لهم لأنهم الذين بمحل الرضى من الله تعالى‏.‏

وتُثار من هذه الآية مسألة الاختلاف بين الأشعرية مع الماتريدي ومع المعتزلة في أن الكافر منعَم عليه أوْ لا‏؟‏ فعن الأشعري أن الكافر غير منعم عليه في الدنيا ولا في الدين ولا في الآخرة، وقال القاضي أبو بكر الباقلاني والماتريدي‏:‏ هو منعم عليه نعمةً دنيوية، لا دينية ولا أُخروية، وقالت المعتزلة‏:‏ هم منعم عليه نعمةً دنيوية ودينية لا أخروية، فأما الأشعري فلم يعتبر بظاهر الملاذ التي تحصل للكافر في الحياة فإنما ذلك إملاء واستدراج لأن مآلها العذاب المؤلم فلا تستحق اسم النعمة‏.‏

وأنا أقول‏:‏ لو استُدل له بأنها حاصلة لهم تبعاً فهي لذائد وليست نعماً لأن النعمة لذة أريد منها نفع من وصلت إليه كما أشرتُ إليه آنفاً‏.‏

وأما الباقلاني فراعى ظاهر الملاذّ فلم يمنع أن تكون نعماً وإن كانت عواقبُها آلاماً، وآياتُ القرآن شاهدة لقوله‏.‏ وأما المعتزلة فزادوا فزعموا أن الكافر منعم عليه دِينَا، وأرادوا بذلك أن الله مكَّن الكافر من نعمة القدرة على النظر المؤدي إلى معرفة الله وواجببِ صفاته‏.‏ والذي استقر عليه رأي المحققين من المتكلمين أن هذا الخلاف لفظي لأنه غير ناظر إلى حقيقة حالة الكافر في الدنيا والدين، وإنما نظر كل شِق من أهل الخلاف إلى ما حفّ بأحوال الكافر في تلك النعمة فرجع إلى الخلاف في الألفاظ المصطلح عليها ومدلولاتها لا في حقائق المقصود منها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

‏{‏فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

تفريع على ما شاهدوا من الآيات وما أفيض عليهم من الرزق، وعلى أنهم المُرْجَوون للتذكر، أي إذ كنتم بهذه الدرجة فادعوا الله مخلصين، ففي الفاء معنى الفصيحة كما تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏وما يتذكر إلاّ من ينيب‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 13‏]‏‏.‏

والمعنى‏:‏ أن الله أراكم آياته وأنزل لكم الرزق وما يتذكر بذلك إلا المنيبون وأنتم منهم فادعوا الله مخلصين لتوفر دواعي تلك العبادة‏.‏

والدعاء هنا الإِعلان وذكر الله وَنداؤه ويشمل الدعاء بمعنى سؤال الحاجة شمول الأعم للأَخص، وتقدم آنفاً أن الدعاء يطلق على العبادة‏.‏ والأمر مستعمل في طلب الدوام لأن المؤمنين قد دَعوا الله مخلصين له، فالمقصود‏:‏ دوموا على ذلك ولو كره الكافرون، لأن كراهية الكافرين ذلك من المؤمنين تكون سبباً لمحاولتهم صرفهم عن ذلك بكل وسيلة يجدون إليها سبيلاً فيُخشى ذلك أن يفتن فريقاً من المؤمنين، فالكراهية كناية عن المقاومة والصدّ لأنهما لازمان للكراهية لأن شأن الكاره أن لا يصبر على دوام ما يكرهه، فالأمر بقوله‏:‏ ‏{‏فادعوا الله مخلصين‏}‏ لي نحو الأمر في قوله‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 136‏]‏‏.‏

وإظهار اسم الجلالة في قوله‏:‏ ‏{‏فادعوا الله‏}‏ لأن الكلام تفريع لاستجداد غرض آخر فجعل مستقلاً عما قبله‏.‏

وتقدم تفسير ‏{‏مُخلصِينَ لهُ الدينَ‏}‏ في تفسير قوله‏:‏ ‏{‏فاعبد الله مخلصاً له الدين‏}‏ أول سورة ‏[‏الزمر‏:‏ 2‏]‏‏.‏

وجملة ‏{‏وَلَو كَرِهَ الكَافِرُونَ‏}‏ في موضع الحال من فاعل ‏{‏ادْعوا‏}‏‏.‏

و ‏{‏لو‏}‏ وصلية تفيد أن شرطها أقصَى ما يكون من الأحوال التي يراد تقييد عامل الحال بها، أي اعبدوه في كل حال حتى في حال كراهية الكافرين ذلك لأن كراهية الكافرين ذلك والمؤمنُون بين ظَهْرَانَيْهم وفي بلاد فيه سلطان الكافرين مظنة لأن يصدهم ذلك عن دعاء الله مخلصين له الدين‏.‏ وهذا في معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاصدع بما تؤمر‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 94‏]‏ وقد تقدم تفصيل ‏(‏لو‏)‏ هذه عند قوله‏:‏ ‏{‏فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً ولو افتدى به‏}‏ في سورة ‏[‏آل عمران‏:‏ 91‏]‏‏.‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 16‏]‏

‏{‏رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ ‏(‏15‏)‏ يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ‏(‏16‏)‏‏}‏

‏{‏رَفِيعُ الدرجات ذُو العرش يُلْقِى الروح مِنْ أَمْرِهِ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التلاق * يَوْمَ هُم بارزون لاَ يخفى عَلَى الله مِنْهُمْ‏}‏‏.‏

‏{‏رفيعُ الدرجات‏}‏ خبر عن مبتدأ محذوف هو ضمير اسم الجلالة في قوله‏:‏ ‏{‏فادعوا الله‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 14‏]‏ وليس خبراً ثانياً بعد قوله‏:‏ ‏{‏هُو الَّذي يُريكم آياته‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 13‏]‏ لأن الكلام هنا في غرض مستجدّ، وحذف المسند إليه في مثله حذف اتِّبَاع للاستعمال في حذف مثله، كذا سماه السكاكي بعد أن يَجري من قبل الجملة حديثٌ عن المحذوف كقول عبد الله بن الزَّبِير أو إبراهيم بن العباس الصولي أو محمد بن سعيد الكاتب‏:‏

سأَشكُر عَمْراً إِنْ تَراختْ منيتي *** أَيَادِيَ لَم تُمْنَنْ وإنْ هِيَ جَلَّتِ

فَتًى غير محجوب الغِنى عن صديقه *** ولا مُظْهِرا للشكوى إذا النعل زَلّت

و‏{‏رفيع‏}‏ يجوز أن يكون صفة مشبهة‏.‏ والتعريف في ‏{‏الدرجات‏}‏ عوض عن المضاف إليه‏.‏ والتقدير‏:‏ رفيعةٌ درجاتُه، فلما حُول وصف ما هو من شؤونه إلى أن يكون وصفاً لذاته سلك طريق الإضافة وجُعلت الصفة المشبهة خبراً عن ضمير الجلالة وجعل فاعل الصفة مضافاً إليه، وذلك من حالات الصفة المشبهة يقال‏:‏ فلان حسنٌ فعلُه، ويقال‏:‏ فلان حسَنُ الفعل، فيؤُول قوله‏:‏ ‏{‏رَفِيعُ الدَّرَجات‏}‏ إلى صفة ذاته‏.‏

و ‏{‏الدرجات‏}‏ مستعارة للمجد والعظمة، وجمعها إيذان بكثرة العظمات باعتبار صفات مجد الله التي لا تحصر، والمعنى‏:‏ أنه حقيق بإخلاص الدعاء إليه‏.‏ ويجوز أن يكون ‏{‏الكافرون‏}‏ من أمثلة المبالغة، أي كثير رفععِ الدرجات لمن يشاء وهو معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏نرفع درجات من نشاء‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 76‏]‏‏.‏ وإضافته إلى ‏{‏الدرجات‏}‏ من الإِضافة إلى المفعول فيكون راجعاً إلى صفات أفعال الله تعالى‏.‏

والمقصود‏:‏ تثبيتهم على عبادة الله مخلصين له الدين بالترغيب بالتعرض إلى رفع الله درجاتهم كقوله‏:‏ ‏{‏يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات‏}‏ في سورة ‏[‏المجادلة‏:‏ 11‏]‏‏.‏

‏(‏و ‏{‏ذُو العَرْش‏}‏ خبر ثان وفيه إشارة إلى أن رفع الدرجات منه متفاوت‏.‏

كما أن مخلوقاته العليا متفاوتة في العظم والشرف إلى أن تنتهي إلى العرش وهو أعلى المخلوقات كأنه قيل‏:‏ إن الذي رفع السماوات ورفع العرش مَاذَا تُقَدِّرون رَفعه درجات عابديه على مراتب عبادتهم وإخلاصهم‏.‏

وجملة ‏{‏يُلْقِي الرُّوح مِن أمْرِه‏}‏ خبر ثالث، أو بدلُ بعض من جملة ‏{‏رَفِيعُ الدرجات‏}‏ فإن مِنْ رفع الدرجات أَنْ يرفع بعض عِباده إلى درجة النبوءة وذلك أعظم رفع الدرجات بالنسبة إلى عِباده، فبدل البعض هو هنا أهم أفراد المبدل منه‏.‏

والإِلقاء‏:‏ حقيقته رميُ الشيء من اليد إلى الأرض، ويستعار للاعطاء إذا كان غير مترقب، وكثر هذا في القرآن، قال‏:‏ ‏{‏فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون وألقوا إلى الله يومئذٍ السلم‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 86، 87‏]‏‏.‏ واستعير هنا للوحي لأنه يجيء فجأة على غير ترقب كإلقاء الشيء إلى الأرض‏.‏

والروح‏:‏ الشريعة، وحقيقة الروح‏:‏ ما به حياة الحيّ من المخلوقات، ويستعار للنفيس من الأمور وللوحْي لأنه به حياة الناس المعنوية وهي كمالهم وانتظام أمورهم، فكما تستعار الحياة للإِيمان والعِلممِ، كذلك يستعار الروح الذي هو سبب الحياة لكمال النفوس وسلامتها من الطوايا السيئة، ويطلق الروح على المَلَك قال‏:‏

‏{‏فأرسلنا إليها روحَنا فتمثل لها بشراً سويا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 17‏]‏‏.‏

و ‏{‏مِنْ‏}‏ ابتدائية في ‏{‏مِن أمْرِهِ‏}‏، أي بأمره، فالأمر على ظاهره‏.‏ ويجوز أن تكون ‏{‏من‏}‏ تبعيضية ظرفاً مستقراً صفة ‏{‏الروح‏}‏ أي بَعْضَ شؤونه التي لا يطلع عليها غيره إلا من ارتضى فيكون الأمر بمعنى الشأن، أي الشؤون العجيبة، وقيل‏:‏ ‏{‏من‏}‏ بيانية وأن الأمر هو الروح وهذا بعيد‏.‏

وهذه الآية تشير إلى أن النبوءة غير مكتسبة لأنها ابتدئت بقوله‏:‏ ‏{‏فادعوا الله مخلصين له الدين‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 14‏]‏ ثم أُعقب بقوله‏:‏ ‏{‏رفيع الدرجات‏}‏ فأشار إلى عبادة الله بإخلاص سبب لرفع الدرجات، ثم أعقب بقوله‏:‏ ‏{‏يُلقِي الرُّوح من أمرِه‏}‏ فجيء بفعل الإِلقاء وبكون الروح من أمره وبصلة ‏{‏مَن يَشاء مِن عِباده‏}‏، فآذن بأن ذلك بمحض اختياره وعلمه كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏الله أعلم حيث يجعل رسالاته‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 124‏]‏‏.‏ وهذا يرتبط بقوله في أول السورة ‏[‏2‏]‏ ‏{‏إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصاً له الدين‏}‏ فأمَر رسولَه صلى الله عليه وسلم بالإخلاص في العبادة مفرعاً على إنزال الكتاب إليه، وجاء في شأن الناس بقوله‏:‏ ‏{‏فادعوا الله مُخْلِصين‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 14‏]‏ ثم أعقبه بقوله‏:‏ ‏{‏رَفِيع الدرجات‏}‏‏.‏

وقد ضَرب لهم العرشَ والأنبياء مثلين لرفع الدرجات في العوالم والعقلاء، وفيه تعريض بتسفيه المشركين ‏{‏فقالوا أبشراً منا واحداً نتبعه‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 24‏]‏، ‏{‏وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 31‏]‏ و‏{‏قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 124‏]‏‏.‏

وتخلص من ذكر النبوءة إلى النذارة بيوم الجزاء ليعود وصف يوم الجزاء الذي انقطع الكلام عليه من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلكم بأنه إذا دُعي الله وحده كفرتم‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 12‏]‏ الخ‏.‏

والإِنذار‏:‏ إِخبار فيه تحذير مما يسوء، وهو ضد التبشير إذ هو إخبار بما فيه مسرة‏.‏ وفعله المجرد‏:‏ نَذِر كعلم، يقال‏:‏ نَذِر بالعدوّ فحَذِره‏.‏ والهمزة في أنذر للتعدية فحقه أن لا يتعدى بالهمزة إلا إلى مفعول واحد، وهو الذي كان فاعل الفعل المجرد، وأن يتعدى إلى الأمر المخبَر به بالباء، يقال‏:‏ أنذرتُهم بالعَدوّ، غير أنه غلب في الاستعمال تضمينه معنى التحذير فعدوه إلى مفعول ثان وهو استعمال القرآن، وأما قوله في أول ‏[‏الأعراف‏:‏ 2‏]‏ ‏{‏لتنذر به‏}‏ فالباء فيه للسببية أو الآلة المجازية وليست للتعدية‏.‏ وضمير به عائداً إلى الكتاب‏.‏

والضمير المستتر في لينذر‏}‏ عائد إلى اسم الجلالة من قوله‏:‏ ‏{‏فادعوا الله‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 14‏]‏، والأحسن أن يعود على ‏{‏مَن‏}‏ الموصولة لينذر من ألقَى عليه الروحَ قومَه، ولأن فيه تخلصاً إلى ذكر الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم الذي هو بصدد الإِنذار دون الرسل الذين سبقوا إذ لا تلائمهم صيغة المضارع ولأنه مرجِّح لإِظهار اسم الجلالة في قوله‏:‏ ‏{‏لا يخفى على الله منهم شيء‏}‏ كما سيأتي‏.‏

و ‏{‏يوم التَلاَقي‏}‏ هو يوم الحشر، وسمي يوم التلاقي لأن الناس كلهم يلتقون فيه، أو لأنهم يلقون ربهم لقاء مجازياً، أي يقفون في حضرته وأمام أمره مباشرة كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏الذين لا يرجون لقاءنا‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 7‏]‏ أي لا يرجُون يوم الحشر‏.‏ وانتصبَ ‏{‏يوم التلاقي‏}‏ على أنه مفعول ثان ل ‏{‏ينذر‏}‏، وحذف المفعول الأول لظهوره، أي لينذر الناسَ‏.‏ وبَين ‏{‏التَّلاَقي‏}‏ و‏{‏يُلْقي‏}‏ جناس‏.‏

وكتب ‏{‏التَّلاَقي‏}‏ في المصحف بدون ياء‏.‏ وقرأه نافع وأبو عمرو في رواية عنه بكسرة بدون ياء‏.‏ وقرأه الباقون بالياء لأنه وقع في الوصل لا في الوقف فلا موجب لطرح الياء إلا معاملة الوصل معاملة الوقف وهو قليل في النثر فيقتصر فيه على السماع‏.‏ وكفى برواية نافع وأبي عمرو سماعاً‏.‏

و ‏{‏يَوْمَ هُم بارزون‏}‏ بدل من ‏{‏يَوْمَ التَّلاَقي‏}‏‏.‏ و‏{‏هم بارزون‏}‏ جملة اسمية، والمضاف ظرف مستقبل وذلك جائز على الأرجح بدون تقدير‏.‏

وضمير الغيبة عائد إلى ‏{‏الكافِرُونَ من قوله‏:‏ وَلَوْ كَرِهَ الكافرون‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 14‏]‏‏.‏

وجملة ‏{‏لا يَخْفَى على الله منهم شيءٌ‏}‏ بيان لجملة ‏{‏هُم بارزون‏}‏ والمعنى‏:‏ أنهم واضحة ظواهرهم وبواطنهم فإن ذلك مقتضى قولهم‏:‏ ‏{‏مِنْهم شَيءٌ‏}‏‏.‏

وإظهار اسم الجلالة لأن إظهاره أصْرح لبعد معاده بما عقبه من قوله‏:‏ ‏{‏على مَن يَشَاءُ من عِبادهِ‏}‏، ولأن الأظهر أن ضمير ‏{‏ليُنذِر‏}‏ عائد إلى ‏{‏مَن يَشَاء‏}‏‏.‏

ومعنى ‏{‏مِنهُم‏}‏ من مجموعهم، أي من مجموع أحوالهم وشؤونهم، ولهذا أوثر ضمير الجمع لما فيه من الإِجمال الصالح لتقدير مضاف مناسب للمقام، وأوثر أيضاً لفظ ‏{‏شَيْءٌ‏}‏ لتوغله في العموم، ولم يقل لا يخفى على الله منهم أحد، أو لا يخفى على الله من أحدٍ شيءٌ، أي من أجزاء جسمه، فالمعنى‏:‏ لا يخفى على الله شيء من أحوالهم ظاهرها وباطنها‏.‏

‏{‏شَئ لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد‏}‏

مقول لقول محذوف، وحذف القول من حديث البحر‏.‏ والتقدير‏:‏ يقول الله لمن الملك اليوم، ففعل القول المحذوف جملة في موضع الحال، أو استئناف بياني جواباً عن سؤال سائل عما ذا يقع بعد بروزهم بين يدي الله‏.‏

والاستفهام إما تقريري ليشهد الطغاة من أهل المحشر على أنفسهم أنهم كانوا في الدنيا مخطئين فيما يزعمونه لأنفسهم من مُلك لأصنامهم حين يضيفون إليها التصرف في ممالك من الأرض والسماء، مثل قول اليونان بإله البحر وإله الحرب وإله الحكمة، وقول أقباط مصر بإله الشمس وإله الموت وإله الحكمة، وقول العرب باختصاص بعض الأصنام ببعض القبائل مثل اللاتتِ لثقيف، وذي الخَلَصة لدوْس، ومناةَ للأوس والخزرج‏.‏ وكذلك ما يزعمونه لأنفسهم من سلطان على الناس لا يشاركهم فيه غيرهم كقول فرعون‏:‏ ‏{‏ما علمت لكم من إله غيري‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 38‏]‏ وقولِه‏:‏ ‏{‏أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 51‏]‏، وتلقيب أكاسرة الفرس أنفسهم بلقب‏:‏ ملك الملوك ‏(‏شاهنشاه‏)‏، وتلقيب ملوك الهند أنفسهم بلقب ملك الدنيا ‏(‏شاه جهان‏)‏‏.‏ ويفسر هذا المعنى ما في الحديث في صفة يوم الحشر «ثم يقول الله أنا المَلِك أين ملوك الأرض» استفهاماً مراداً منه تخويفهم من الظهور يومئذٍ، أي أين هم اليوم لماذا لم يظهروا بعظمتهم وخيلائهم‏.‏

ويجوز أيضاً أن يكون الاستفهام كناية عن التشويق إلى ما يرد بعده من الجواب لأن الشأن أن الذي يسمع استفهاماً يترقب جوابه فيتمكن من نفسه الجوابُ عند سماعه فَضْلَ تمكُّن، على أن حصول التشويق لا يفوت على اعتبار الاستفهام للتقرير، وقريب منه‏:‏ ‏{‏وإذَا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دَعان‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 186‏]‏‏.‏

و ‏{‏اليوم‏}‏ المعرف باللام هو اليوم الحاضر، وحضوره بالنسبة إلى القول المحكي أنه يقال فيه، أي اليوم الذي وقع فيه هذا القول كما هو شأن أسماء الزمان الظروف إذا عُرِّفت باللام‏.‏

وجملة ‏{‏لله الواحد القَهَّار‏}‏ يجوز أن تكون من بقية القول المقدر الصادر من جانب الله تعالى بأن يصدر من ذلك الجانب استفهام ويصدر منه جوابه لأنه لما كان الاستفهام مستعملاً في التقرير أو التشويق كان من الشأن أن يتولى الناطق به الجواب عنه، ونظيره قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عَمَّ يتساءَلُون عَننِ النبإ العَظِيم‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 1، 2‏]‏‏.‏ ويجوز أن تكون مقول قول آخر محذوف، أي فيقول المسؤولون‏:‏ ‏{‏لله الواحد القهَّار‏}‏ إقراراً منهم بذلك، والتقدير‏:‏ فيقول البارزون لله الواحد القهار، فتكون معترضة‏.‏

وذكر الصفتين ‏{‏الواحد القَهَّار‏}‏ دون غيرهما من الصفات العُلَى لأن لمعنييهما مزيد مناسبة بقوله‏:‏ ‏{‏لِمَننِ المُلْكُ اليَوْمَ‏}‏ حيث شوهدت دلائل الوحدانية لله وقهره جميعَ الطغاة والجبارين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ‏(‏17‏)‏‏}‏

لا ريب في أن هذه الجمل الثلاث متصلة بالمقول الصادر من جانب الله تعالى، سواء كان مجموع الجملتين السابقتين مَقولاً واحداً أم كانت الثانية منهما من مقول أهل المحشر‏.‏ وترتيبُ هذه الجمل الخمس هو أنه لما تقرر أن الملك لله وحده في ذلك اليوم بمجموع الجملتين السابقتين، عددت آثار التصرف بذلك المُلككِ وهي الحكم على العباد بنتائج أعمالهم وأنه حكم عادل لا يشوبه ظلم، وأنه عاجل لا يبطئ لأن الله لا يشغله عن إقامة الحق شاغل ولا هو بحاجة إلى التدبر والتأمل في طرق قضائه، وعلى هذه النتائج جاء ترتيب ‏{‏اليوم تجزى كل نفس بما كسبت‏}‏، ثم ‏{‏لا ظُلم اليوم‏}‏، ثم ‏{‏إن الله سَرِيع الحِساب‏}‏، وأما مواقع هاته الجمل الثلاث فإن جملة ‏{‏اليوم تجزى‏}‏ الخ واقعة موقع البيان لما في جملة ‏{‏لمن الملك اليوم‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 16‏]‏ وجوابها من إجمال، وجملة ‏{‏لا ظلم اليوم‏}‏ واقعة موقع بدل الاشتمال من جملة ‏{‏اليوم تجزى كل نفس بما كسبت‏}‏ أي جزاء عادلاً لا ظلم فيه، أي ليس فيه أقل شوب من الظلم حسبما اقتضاه وقوع النكرة بعد ‏{‏لا‏}‏ النافية للجنس‏.‏

وتعريف ‏{‏اليَوْم‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏اليوم تجزى كل نفس‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لا ظلم اليوم‏}‏ نظير تعريف ‏{‏لِمَن المُلك اليوم‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 16‏]‏، وجملة ‏{‏إن الله سريع الحساب‏}‏ واقعة موقع التعليل لوقوع الجزاء في ذلك اليوم ولانتفاء الظلم عن ذلك الجزاء‏.‏ وتأخيرها عن تينك الجملتين مشير إلى أنها علة لهما، فحرف التوكيد واقع موقع فاء السببية كما هو شأن ‏{‏إنَّ‏}‏ إذا جاءت في غير مقام رَد الإِنكار، فسرعة الحساب تقتضي سرعة الحكم‏.‏ وسرعة الحكم تقتضي تملُّؤٍ الحاكم من العلم بالحق، ومن تقدير جزاء كل عامل على عمله دون تردد ولا بحث لأن الحاكم علام الغيوب، فكانَ قوله‏:‏ ‏{‏سَريعُ الحساب‏}‏ علة لجميع ما تقدمه في هذا الغرض‏.‏ والمعنى‏:‏ أن الله محاسبهم حساباً سريعاً لأنه سريع الحساب‏.‏

والحساب مصدر حاسب غيره إذا حَسِب له ما هو مطلوب بإعداده، وفائدة ذلك تختلف فتارة يكون الحساب لقصد استحضار أشياء كيلا يضيع منها شيء، وتارة يكون لقصد توقيف من يتعين توقيفه عليها، وتارة يكون لقصد مجازاة كل شيء منها بعدله، وهذا الأخير هو المراد هنا ولأجله سمّي يوم الجزاء يومَ الحساب، وهو المراد في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن حسابهم إلا على ربي‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 113‏]‏‏.‏ والباء في قوله‏:‏ ‏{‏بما كسبت‏}‏ للسببية، أي تُجزى بسبب ما كسبت، أي جزاء مناسباً لما كسبت، أي عملت‏.‏

وفي الآية إيماء إلى أن تأخير القضاء بالحق بعد تبينه للقاضي بدون عذر ضَرب من ضروب الجور لأن الحق إنْ كان حق العباد فتأخير الحكم لصاحب الحق إبقاء لحقه بيد غيره، ففيه تعطيل انتفاعه بحقه برهة من الزمان وذلك ظلم، ولَعل صاحب الحق في حاجة إلى تعجيل حقه لنفع معطَّل أو لدفع ضر جَاثم، ولعله أن يهلك في مدة تأخير حقه فلا ينتفع به، أو لعل الشيء المحكوم به يتلف بعارض أو قصد فلا يصل إليه صاحبه بعد‏.‏

وإن كان الحق حقَّ الله كان تأخير القضاء فيه إقراراً للمنكر‏.‏ في «صحيح البخاري» ‏"‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل أبا موسى على اليمن ثم أتبعه معاذَ بن جبل فلمّا قدِم معاذ على أبي موسى ألقى إليه أبو موسى وسادة وقال له‏:‏ أنزل، وإذا رجُل موثق عند أبي موسى، قال مُعاذ‏:‏ ما هذا‏؟‏ قال‏:‏ كان يهودياً فأسلم ثم تَهوَّد‏.‏ قال مُعاذ‏:‏ لا أجلس حتى يُقتَل، قضاءَ الله ورسوله، ثلاث مرات، فأمر به أبو موسى فقتل ‏"‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآَزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ ‏(‏18‏)‏‏}‏

الأظهر أن يكون قوله‏:‏ ‏{‏وأنذِرْهم‏}‏ وما بعده معترضاً بين جملة ‏{‏إن الله سريع الحساب‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 17‏]‏ وجملة ‏{‏يَعْلم خائِنة الأعيُن‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 19‏]‏ على الوجهين الآتيين في موقع جملة ‏{‏يعلم خائنة الأعين‏}‏، فالواو اعتراضية، والمناسبة أن ذكر الحساب به يقتضي التذكير بالاستعداد ليوم الحساب وهو يوم الآزفة‏.‏

ويوم الآزفة يوم القيامة‏.‏ وأصل الآزفة اسم فاعل مؤنث مشتق من فعل أزِف الأمر، إذا قرب، فالآزفة صفة لموصوف محذوف تقديره‏:‏ الساعة الآزفة، أو القيامة الآزفة، مثل الصاخّة، فتكون إضافة ‏{‏يوم‏}‏ إلى ‏{‏الآزفة‏}‏، حقيقية‏.‏ وتقدم القول في تعدية الإِنذار إلى ‏(‏اليوم‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏لتنذر يوم التلاقي‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 15‏]‏‏.‏

‏(‏و ‏{‏إذْ‏}‏ بدل من ‏{‏يوم‏}‏ فهو اسم زمان منصوب على المفعول به، مضاف إلى جملة ‏{‏القلوب لدى الحناجر‏}‏ و‏{‏أل‏}‏ في ‏{‏القُلُوبُ‏}‏ و‏{‏الحناجر‏}‏ عوض عن المضاف إليه‏.‏ وأصله‏:‏ إذْ قلوبهم لدى حناجرهم، فبواسطة ‏(‏أل‏)‏ عُوض تعريف الإِضافة بتعريف العهد وهو رَأي نحاة الكوفة، والبصريون يقدرون‏:‏ إذ القلوب منهم والحناجر منهم والمعنى‏:‏ إذ قلوب الذين تنذرهم، يعني المشركين، فأمَّا قلوب الصالحين يومئذٍ فمطمئنة‏.‏

والقلوب‏:‏ البضعات الصنوبرية التي تتحرك حركة مستمرة ما دام الجسم حيًّا فتدفع الدم إلى الشرايين التي بها حياة الجسم‏.‏

والحناجر‏:‏ جمع حَنْجَرة بفتح الحاء وفتح الجيم وهي الحُلقوم‏.‏ ومعنى القلوب لدى الحناجر‏:‏ أن القلوب يشتدّ اضطراب حركتها من فرط الجزع مما يشاهِده أهلها من بوارق الأهوال حتى تتجاوز القلوبُ مواضعها صاعدة إلى الحناجر كما قال تعالى في ذكر يوم الأحزاب‏:‏ ‏{‏وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 10‏]‏‏.‏

وكاظم‏:‏ اسم فاعل من كظَم كُظُوماً، إذا احتبسَ نفَسُه ‏(‏بفتح الفاء‏)‏‏.‏ فمعنى ‏{‏كاظمين‏}‏‏:‏ اكنين لا يستطيعون كلاماً‏.‏ فعلى هذا التأويل لا يقدَّر ل ‏{‏كاظمين‏}‏ مفعول لأنه عومل معاملة الفعل اللازم‏.‏ ويقال‏:‏ كَظَم كظماً، إذا سَدّ شيئاً مجرى ماء أو باباً أو طريقاً فهو كاظم، فعلى هذا يكون المفعول مقدراً‏.‏ والتقدير‏:‏ كاظمينها، أي كاظمين حناجرهم إشفاقاً من أن تخرج منها قلوبهم من شدة الاضطراب‏.‏ وانتصب ‏{‏كاظمين‏}‏ على الحال من ضمير الغائب في قوله‏:‏ ‏{‏أنذرهم‏}‏ على أن الحال حال مقدرة‏.‏ ويجوز أن يكون حالاً من القلوب على المجاز العقلي بإسناد الكاظم إلى القلوب وإنما الكاظم أصحاب القلوب كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فويل لهم مما كتبت أيديهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 79‏]‏ وإنما الكاتبون هم بأيديهم‏.‏

وجملة ‏{‏ما للظالمين من حميم ولا شفيع يُطاع‏}‏ في موضع بدل اشتمال من جملة ‏{‏القُلُوب لدَى الحناجِر‏}‏ لأن تلك الحالة تقتضي أن يستشرفوا إلى شفاعة من اتخذوهم ليَشفعوا لهم عند الله فلا يُلفون صديقاً ولا شفيعاً‏.‏ والحميم‏:‏ المحب المشفق‏.‏

والتعريف في ‏{‏الظالمين‏}‏ للاستغراق ليعم كل ظالم، أي مشرك فيشمل الظالمين المنذَرين، ومن مضى من أمثالهم فيكون بمنزلة التذييل ولذلك فليس ذكر الظالمين من الإِظهار في مقام الإِضمار‏.‏

ووصْفُ‏:‏ ‏{‏شفيع‏}‏ بجملة ‏{‏يطاع‏}‏ وصْف كاشف إذ ليس أن المراد لهم شفعاء لا تطاع شفاعتهم لظهور قلة جدوى ذلك ولكن لما كان شأن من يتعرض للشفاعة أن يثق بطاعة المشفوع عنده له‏.‏ وأُتبع ‏{‏شفيع‏}‏ بوصف ‏{‏يطاع‏}‏ لتلازمهما عرفاً فهو من إيراد نفي الصفة اللازمةِ للموصوف‏.‏ والمقصودُ‏:‏ نفي الموصوف بضرب من الكناية التلميحية كقول ابنِ أحمر‏:‏

ولا تَرى الضبَّ بها ينْجَحِرْ ***

أي لا ضبّ فيها فينجحر، وذلك يفيد مفاد التأكيد‏.‏

والمعنى‏:‏ أن الشفيع إذا لم يُطَع فليس بشفيع‏.‏ والله لا يجترئ أحد على الشفاعة عنده إلا إذا أذن له فلا يشفع عنده إلا مَن يُطاع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ‏(‏19‏)‏‏}‏

يجوز أن تكون جملة ‏{‏يعلم خائِنة الأعين‏}‏ خبراً عن مبتدأ محذوف هو ضمير عائد إلى اسم الجلالة من قوله‏:‏ ‏{‏إن الله سريع الحساب‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 17‏]‏ على نحو ما قرر قبله في قوله‏:‏ ‏{‏رفيعُ الدرجات‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 15‏]‏‏.‏ ومجموع الظاهر والمقدر استئناف للمبالغة في الإِنذار لأنهم إذا ذُكِّروا بأن الله يعلم الخفايا كان إنذاراً بالغاً يقتضي الحذر من كل اعتقاد أو عمل نهاهم الرسول صلى الله عليه وسلم عنه، فبعد أن أيْأَسهم من شفيع يسعى لهم في عدم المؤاخذة بذنوبهم أيأسهم من أن يتوهموا أنهم يستطيعون إخفاء شيء من نواياهم أو أدنى حركات أعمالهم على ربهم‏.‏ ويجوز أن تكون خبراً ثانياً عن اسم إنَّ في قوله‏:‏ ‏{‏إن الله سريع الحساب‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 17‏]‏، وما بينهما اعتراض كما مرّ على كلا التقديرين‏.‏

و ‏{‏خائِنة الأعين‏}‏ مصدر مضاف إلى فاعله فالخائنة مصدر على وزن اسم الفاعل مثل العَافية للمعافاة، والعاقبة، والكاذبة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليس لوقعتها كاذبة‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 2‏]‏ ويجوز إبقاء ‏{‏خائنة‏}‏ على ظاهر اسم الفاعل فيكون صفة لموصوف محذوف دل عليه ‏{‏الأعين،‏}‏ أي يعلم نظرة الأعين الخائنة‏.‏

وحقيقة الخيانة‏:‏ عمل مَن أؤتُمِن على شيء بضد مَا أؤتُمنَ لأجله بدون علم صاحب الأمانة، ومن ذلك نقضُ العهد بدون إعلان بنبذه‏.‏ ومعنى‏:‏ ‏{‏خائِنة الأعين‏}‏ خيانة النظر، أي مسارقة النظر لشيء بحضرة من لا يحب النظر إليه‏.‏ فإضافة ‏{‏خائنة‏}‏ إلى ‏{‏الأعين‏}‏ من إضافة الشيء إلى آلتِه كقولهم‏:‏ ضرب السيف‏.‏

والمراد ب ‏{‏خائنة الأعين‏}‏ النظرة المقصود منها إشعار المنظور إليه بما يسوء غيرها الحاضرَ استهزاء به أو إغراء به‏.‏ وإطلاق الخائنة بمعنى الخيانة على هذه النظرة استعارة مكنية، شبه الجليس بالحليف في أنه لما جلس إليك أو جلست إليه فكأنه عاهدك على السلامة، ألا ترى أن المجالسة يتقدّمها السلام وهو في الأصل إنباء بالمسالمة فإذا نظرت إلى آخر غَيْرِكُما نظراً خفياً لإِشارة إلى ما لا يرضي الجليسَ من استهزاء أو إغراء فكأنك نقضت العهد المدخول عليه بينكما، فإطلاق الخيانة على ذلك تفظيع له، ويتفاوت قربُ التشبيه بمقدار تفاوت ما وقعت النظرة لأجله في الإِساءة وآثار المضرة‏.‏ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم «ما يَكون لنبي أن تكون له خَائنة الأعين»، أي لا تصدر منه‏.‏

و ‏{‏وما تُخفي الصدور‏}‏ النوايا والعزائم التي يضمرها صاحبها في نفسه، فأطلق الصدر على ما يكنّ الأعضاء الرئيسية على حسب اصطلاح أصحاب اللغة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ‏(‏20‏)‏‏}‏

كان مقتضى الظاهر أن يؤتَى بجملة ‏{‏يقضي بالحق‏}‏ معطوفة بالواو على جملة ‏{‏يعلم خائنة الأعين‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 19‏]‏ فيقال‏:‏ ويقضى بالحق ولكن عدل عن ذلك لما في الاسم العلم لله تعالى من الإِشعار بما يقتضيه المسمى به من صفات الكمال التي منها العدل في القضاء، ونظيره في الإِظهار في مقام الإِضمار قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها والله يحكم لا معقب لحكمه‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 41‏]‏‏.‏ وليحصل من تقديم المسند إليه على المسند الفعلي تقوِّي المعنى، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 36‏]‏ أعيد الموصول ولم يؤت بضمير ‏{‏الذين كفروا‏}‏ ليُفيد تقديمُ الاسم على الفعل تقوّي الحكم‏.‏

والجملة من تمام الغرض الذي سيقت إليه جملة ‏{‏يعلم خائنة الأعين‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 19‏]‏ كما تقدم، وكلتاهما ناظرة إلى قوله‏:‏ ‏{‏ما للظالمين من حميم ولا شفيع‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 18‏]‏ أي أن ذلك من القضاء بالحق‏.‏

وأما جملة ‏{‏والذين تدعون من دونه لا يقضون بشيء‏}‏ فناظرة إلى جملة ‏{‏ما للظالمين من حميم ولا شفيع‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 18‏]‏ فبعد أن نُفي عن أصنامهم الشفاعة، نُفيَ عنها القضاءُ بشيء مَّا بالحق أو بالباطل وذلك إظهار لعجزِها‏.‏ ولا تحْسِبنَّ جملةَ ‏{‏والذين تدعون من دونه لا يقضون بشيء‏}‏ مسوقةً ضميمة إلى جملة‏:‏ ‏{‏والله يقضي بالحق‏}‏ ليفيد مجموع الجملتين قصر القضاء بالحق على الله تعالى قَصْرَ قلب، أي دون الأصنام، كما أفيد القصر من ضم الجملتين في قول السمَوْأل أو عبد الملك الحارثي‏:‏

تَسيل على حد الظُّبات نفوسنا *** وليست على غير الظُّبات تسيل

لأن المنفي عن آلهتهم أعمّ من المثبت لله تعالى، وليس مثل ذلك مما يضاد صيغة القصر لكفى في إفادته تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي بحَمْله على إرادة الاختصاص في قوله‏:‏ ‏{‏والله يقضي بالحق‏}‏‏.‏ فالمراد من قوله‏:‏ ‏{‏والذين تدعون من دونه لا يقضون بشيء‏}‏ التذكير بعجز الذين يدعونهم وأنهم غير أهل للإِلهية، وهذه طريقة في إثبات صفة لموصوف ثم تعقيب ذلك بإظهار نقيضه فيما يُعدّ مساوياً له كما في قول أمية بن أبي الصلت‏:‏

تلك المكارمُ لا قَعْبَاننِ من لَبَن *** شيباً بماءٍ فصار فيما بعدُ أبوالا

وإلاَّ لما كان لعطف قوله‏:‏ لا قَعْباننِ من لبن، مناسبة‏.‏

والدعاء يجوز أن يكون بمعنى النداء وأن يكون بمعنى العبادة كما تقدم آنفاً‏.‏

وجملة ‏{‏إن الله هو السميع البصير‏}‏ مقررة لجمل ‏{‏يعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏لا يَقْضُون بشيء‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 19، 20‏]‏‏.‏ فتوسيط ضمير الفصل مفيد للقصر وهو تعريض بأن آلهتهم لا تسمع ولا تبصر فكيف ينسبون إليها الإِلهية، وإثبات المبالغة في السمع والبصر لله تعالى يُقرر معنى ‏{‏يَقْضِي بالحق‏}‏ لأن العالم بكل شيء تتعلق حكمته بإرادة الباطل ولا تخطئ أحكامه بالعثار في الباطل‏.‏ وتأكيد الجملة بحرف التأكيد تحقيق للقصر‏.‏ وقد ذكر التفتزاني في «شرح المفتاح» في مبحث ضمير الفصل أن القصر يُؤكَّد‏.‏

وقرأ نافع وهشام عن ابن عامر ‏{‏تدعُون بتاء الخطاب على الالتفات من الغيبة إلى الخطاب لقرع أسماع المشركين بذلك‏.‏ وقرأ الجمهور بياء الغيبة على الظاهر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 22‏]‏

‏{‏أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآَثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ ‏(‏21‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏22‏)‏‏}‏

انتقال من إنذارهم بعذاب الآخرة على كفرهم إلى موعظتهم وتحذيرهم من أن يحل بهم عذاب الدنيا قبل عذاب الآخرة كما حلّ بأمم أمثالهم‏.‏

فالواو عاطفة جملة ‏{‏ألم يسيروا في الأرض‏}‏ على جملة ‏{‏وأنذرهم يوم الأزِفَة‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 18‏]‏ الخ‏.‏ والاستفهام تقريري على ما هو الشائع في مثله من الاستفهام الداخل على نفي في الماضي بحرف ‏(‏لْم‏)‏، والتقرير موجه للذين ساروا من قريش ونظروا آثار الأمم الذين أبادهم الله جزاء تكذيبهم رسلهم، فهم شاهدوا ذلك في رحلتيهم رحلةِ الشتاء ورحلة الصيف وإنهم حدثوا بما شاهدوه مَن تضمهم نواديهم ومجالسهم فقد صار معلوماً للجميع، فبهذا الاعتبار أسند الفعل المقرر به إلى ضمير الجمع على الجملة‏.‏

والمضارع الواقع بعد ‏(‏لَم‏)‏ والمضارعُ الواقع في جوابه منقلبان إلى المضي بواسطة ‏(‏لم‏)‏‏.‏ وتقدم شبيه هذه الآية في آخر سورة فاطر وفي سورة الروم‏.‏

والضمير المنفصل في قوله‏:‏ ‏{‏كانُوا هُم‏}‏ ضمير فصل عائد إلى ‏{‏الظالمين‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 18‏]‏ وهم كفار قريش الذين أريدوا بقوله‏:‏ ‏{‏وأنذرهم‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 18‏]‏، وضمير الفصل لمجرد توكيد الحكم وتقويته وليس مراداً به قصر المسند على المسند إليه، أي قصر الأشدّية على ضمير‏:‏ كانوا‏}‏ إذ ليس للقصر معنى هنا كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنني أنا الله‏}‏ في سورة ‏[‏طه‏:‏ 14‏]‏ وهذا ضابط التفرقة بين ضمير الفصل الذي يفيد القصر وبين الذي يفيد مجرد التأكيد‏.‏ واقتصار القزويني في «تلخيص المفتاح» على إفادة ضمير الفصل الاختصاص تقصير تبع فيه كلام «المفتاح» وقد نبه عليه سعد الدين في «شرحه على التلخيص»‏.‏

والمراد بالقوة القوةُ المعنوية وهي كثرة الأمة ووفرةُ وسائل الاستغناء عن الغير كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا مَن أشد منا قوة أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 15‏]‏

وجملة ‏{‏كانوا هم أشد منهم قوَّة‏}‏ الخ مستأنفة استئنافاً بيانياً لتفصيل الإِجمال الذي في قوله‏:‏ ‏{‏كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم‏}‏ لأن العبرة بالتفريع بعدها بقوله‏:‏ ‏{‏فأخَذَهم الله بذنوبهم‏}‏‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏منهم‏}‏ بضمير الغائب، وقرأه ابن عامر ‏{‏منكم بضمير خطاب الجماعة وكذلك رسمت في مصحف الشام، وهذه الرواية جارية على طريقة الالتفات‏.‏

والآثار‏:‏ جمع أثر، وهو شيء أو شكل يرسمه فعل شيء آخر، مثلُ أثر الماشي في الرمْل قال تعالى‏:‏ ‏{‏فقبضت قبضة من أثر الرسول‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 96‏]‏ ومثلُ العشب أثر المطر في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فانظر إلى أثر رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 50‏]‏، ويستعار الأثر لما يقع بعد شيء كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلعلك باخع نفسك على آثارهم‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 6‏]‏‏.‏

والمراد بالأرض‏:‏ أرض أمتهم‏.‏

والفاء في ‏{‏فأخَذَهُم الله‏}‏ لتفريع الأخذ على كونهم أشدَّ قوة من قريش لأن القوة أريد بها هنا الكناية عن الإِباء من الحق والنفور من الدعوة، فالتقدير‏:‏ فأعرضوا، أو فكفروا فأخذهم الله‏.‏

والآخذ‏:‏ الاستئصال والإِهلاك كنّي عن العقاب بالأخذ، أو استعمل الأخذ مجازاً في العقاب‏.‏

والذنوب‏:‏ جمع ذنب وهو المعصية، والمراد بها الإِشراك وتكذيب الرسل، وذلك يستتبع ذنوباً جمة، وسيأتي تفسيرها بقوله‏:‏ ‏{‏ذلك بأنَّهم كانت تأتِيهِم رُسُلُهم بالبينات‏}‏‏.‏

ومعنى‏:‏ ‏{‏وما كانَ لهُم مِنَ الله من وَاق‏}‏ ما كان لهم من عقابه وقدرته عليهم، فالواقي‏:‏ هو المدافع الناصر‏.‏

و ‏{‏مِن الأولى متعلقة بواقٍ،‏}‏ وقدم الجار والمجرور للاهتمام بالمجرور، و‏{‏من‏}‏ الثانية زائدة لتأكيد النفي بحرف ‏(‏ما‏)‏ وذلك إشارة إلى المذكور وهو أخذ الله إياهم بذنوبهم‏.‏

والباء للسببية، أي ذلك الأخذ بسبب أنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فكفروا بهم، وفي هذا تفصيل للإجمال الذي في قوله‏:‏ ‏{‏فأخذهم الله بذنوبهم‏}‏‏.‏ والجملة بعد ‏(‏أنَّ‏)‏ المفتوحة في تأويل مصدر‏.‏ فالتقدير‏:‏ ذلك بسبب تحقق مجيء الرسل إليهم فكفرهم بهم‏.‏

وأفاد المضارع في قوله‏:‏ ‏{‏تأتيهم‏}‏ تجدد الإتيان مرة بعد مرة لمجموع تلك الأمم، أي يأتي لكل أمة منهم رسول، فجمع الضمير في ‏{‏تأتيهم‏}‏ و‏{‏رسلهم‏}‏ وجمع الرسل في قوله‏:‏ ‏{‏رسلهم‏}‏ من مقابلة الجمع بالجمع، فالمعنى‏:‏ أن كل أمة منهم أتاها رسول‏.‏ ولم يؤت بالمضارع في قوله‏:‏ ‏{‏فكفروا‏}‏ لأن كفر أولئك الأمم واحد وهو الإِشراك وتكذيب الرسل‏.‏

وكرر قوله‏:‏ ‏{‏فأخَذَهُمُ الله‏}‏ بعد أن تقدم نظيره في قوله‏:‏ ‏{‏فأخَذَهُمُ الله بِذُنُوبِهِم‏}‏ الخ إطناباً لتقرير أخذ الله إياهم بكفرهم برسلهم، وتهويلاً على المنذَرين بهم أن يُساوُوهم في عاقبتهم كما سَاوَوْهم في أسبابها‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏إنَّه قَوِيٌّ شَدِيد العِقَابِ‏}‏ تعليل وتبيين لأخذ الله إياهم وكيفيته وسرعة أخذه المستفادة من فاء التعقيب، فالقويّ لا يعجزه شيء فلا يعطل مراده ولا يتريث، و‏{‏شديد العقاب‏}‏ بيان لذلك الأخذ على حد قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 42‏]‏‏.‏